القمل الّذي التهم عانة الجنرال

حاتم التليلي محمودي – موقع الأوان   

 

ستتوقّف عن قراءة  رواية “قمل العانة” لغسان الجباعي (شامة 2020) أكثر من مرّة. ستشعر بالقرف من لحمك الآدمي، ستشعر أيضا بالغثيان، وربما تخلع قميصك وثيابك وتتأمل جلدك، ولن تعود إلى فراءتها إلا وقد نهشت أظافرك صدرك أو عانتك. وعلى الأغلب، أنت ستدخل مسرعا إلى حوض الاستحمام بعد أن ينتابك الإحساس بأن القمل قد اجتاح جسدك: قصّة جنرال، جنرال سوري يقوده الهوس باغتصاب المعتقلات في السجون حيث لا ثمّة غير الأوساخ والروائح القاتلة وآثار الدم، جنرال حيوانيّ السلوك يصيبه القمل في عانته ويتحوّل إلى كتلة من القرف، ينقل العدوى إلى زوجته، زوجته التي اجتاحتها تلك الحشرة المقيتة وأصابت جمرة الشهوة بين فخذيها.

رواية عن الخراب السوري المعاصر، الخراب الذي شغّلته بيارق مصّاص الدماء وحاصد الأرواح ومعذّب الأجساد ومشغّل الموت، الخراب الذي نمت فيه حياة البعض في السجون تحت آلات التعذيب والقتل والخصي والاغتصاب. ورواية عن الذين لا صوت لهم، أولئك “التحتيون” الذين فرض عليهم العيش تحت الركام وفوق المجازر حيث تسري سياسات تشويههم فلا إقامة لهم في العالم إلا بوصفهم شخصيات مغتربة ومأسلبة.

ثمّة نسج كتابيّ عظيم تمّت عملية لحمه بشكل مروّع في هذه  الرواية، والزعزعة الأكثر ترويعا هي تلك التي وجدت نشاطها في التداخل بين الخطاب الإبداعي وقرينه النقدي حتّى أنّهما ألّفا متنا كتابيا واحدا. كيف نوصل خبرا روائيا كهذا إلى الروائيين والنقاد والمبدعين؟ إنّها لمفارقة مدهشة أن نقرأ “قمل العانة” لنكتشف في نهاية المطاف أنّنا قرأنا روايتين لا رواية واحدة. لن تنتهي هذه الصدمة عند هذا الحدّ، فعلى غرار كونها تمثّل رواية داخل الرواية من حيث تشغيلها الخطاب الواصف، فهي أيضا تدعونا في بعض مواطنها إلى حكّ جلودنا بل وتورّطنا في ذلك، وتجعلنا من حيث لا نعلم نشتم الربّ مرارا إلى أن تبصق حناجرنا دما متخثّرا ونختنق في نهاية اللعبة أو ربّما نشعر بالرّعب إلى حدّ تركض فيه الكوابيس خلفنا آخر الليل.

لننتبه ونحن نطرح هذا الاستشكال الروائيّ: ما هي الرواية التي نعثر عليها في “قمل العانة”؟ ألا يعد ذلك نفيا مسبقا للرواية الأصل؟ نعم، وهنا مقام الروائي البهلوان واللاعب والساحر والعنيف،  هذا الذي خرّب كل ما يمتّ بصلة إلى البنية الحكائية وفكّكها تفكيكا مروّعا ثمّ شرّدنا في لحمه الكتابيّ: ربّ لحم لن يصلح للأكل ولا للشّواء، إذ أزهرت من تربته أشواك حادّة وقاتلة ومدمّرة.

رواية لا موضوع لها إلا الرواية: إنّها تعقد ضربا من الاستشكال النقدي العنيف، هذا الذي يتحدّث عن زمن الكتابة الروائية وطرائق تسريدها، وهذا الذي يطرح السؤال عن كيف يمكن أن نكتب رواية مّا. رجل وامرأة يتفقان على كتابتها، تنقطع العلاقة بينهما وتعود، يحتدم الصراع بينهما عن من سيكون المؤلف النهائي وعن الأسلوب والبنية الروائية، ويحتدم أكثر حين يكون لكلّ منهما منظوره الخاص للمرأة وعالم الأدب.

رواية تأتي من داخل الرواية: إنّها تمثّل حدثا إبداعيا مخيفا، هذا الذي تكوّن مثل الجنين في رحم الرواية الأولى، بطلتها تلك المرأة وشخصيات أخرى مأسلبة ومغتربة، بل ومبتورة الأبعاد، تلك التي نظنّ أنّها أعجزت المؤلّف في إيجاد نهاية واضحة لها فإذا بنا نكتشف أنّه نحتها في لحمه الكتابيّ على ذلك النّحو. رواية عن الإنسان الذي تزعزعت ثقته بنفسه وعن الهول والحرب والسجون والتعذيب، رواية تحاكم جنرالا دمويا أصاب القمل عانته بعد اغتصابه للمعتقلات.

لماذا نكتشف في نهاية الرّواية أنّ شخصية “جفان” تحمل اسما آخر هو للمؤلّف؟ ألم تورّطنا تلك المرأة في انزلاقاتها اللغوية أكثر من مرّة حتّى أننا بتنا نشكّ في صحّة أحداث الرواية بل في الرواية نفسها من حيث الأخطاء الفنّية؟ كلّا، لقد فطّننا الراوي بذلك: نحن إذن أمام لعبة تتداخل فيها الحقيقة بالوهم، هذا ما نعيشه في حياتنا اليومية. إنّ “قمل العانة” رواية تتكلّم باسم عصرنا وهذا كلّ ما في الأمر، عصر عصرنا فيه عصرا إلى أن خرج دم القلب عصيرا في أفواه المجرمين وعصر عسير يتكلّم باسم دين جديد هو الجنون !

لقد انتهى ذلك العهد القديم الذي يصنّف الأجناس والفنون، ولم يعد ثمّة تلك السرديات التي تقول بأن هذا النص نص إبداعي أو هو نص نقدي. كلّا، إنّ حالة ما بعد الحديث التي طالت معظم الفنون في المجتمعات الأكثر تطورا أصابتنا نحن أيضا. نعم، إنّه دخولنا العنيف في قرى الإمبراطورية بعبارة أنطونيو نيغري، إنّها هجرتنا إلى ذلك الأفق الما بعديّ حيث تعود الإنسانية إلى رعبها الأوّل، وإلى خوفها الأوّل، وإلى دهشتها الأولى، وهنا تستدعي ماضي حضارتها برمته بغاية تدميره. تنتمي “قمل العانة” إلى هذا المنعطف المريع، وعليه لا يتوجّب علينا وصفها بالرواية بعد الآن، علينا أن نلحق لفظة (ميتا) بها: ميتارواية. يتجاور الخطاب النقدي بالخطاب الإبداعي ليؤلفا معا رهانات عميقة: نقدية وتأويلية، إنّها تضيء دهليزا مظلما من خلاله تعكس تصورات المؤلف إزاء ما يكتبه، إنّها لعبة التجويف والمرآوية، إنّها لعبة الاختراق وتمارين الإقامة على الحدود.

في هذا الجمع بين الخطابين يحضر الفناء وتخيّم النهايات ليختنق العالم برمّته، لقد رأينا كيف انسلخ الروائي عن جلده وكتب بدمه شخصية “جفّان”، لم تعد شخصية متخيلة بقدر ما هي الروائي في حدّ ذاته وقد تحوّل إلى غبار كتابيّ، ولقد رأينا شخصية الروائية (لا المؤلفة) كيف تحوّلت إلى جملة من الشخصيات وفي ذلك انشطار عنيف لهويتها فما عادت طهران إنما هند، وما كانت أختها إلا هي في حدّ ذاتها.

ولكن ماذا عن شخصية فرج؟ إنّ الربّ نفسه سيجهش بالدمع لو عرفه، ولد في السجون وشوّه في السجون لكنّه حين خرج من هناك انتصر عن اسمه “عرسا/عرصا” !!!

ماذا تفعل السجون بالرجال؟ ربّ سؤال نحن نعرف إجابته مسبّقا، نعم نحن نعرف حجم التشويه والألم والحيوانية والتوحّش والقتل والتعذيب وتصيير الآدمية روثا بشريا وفضلات متعفنة ونعرف برك الدم والاغتصاب والصمود أيضا. ولكن ماذا تفعل السجون بالسجّان والجنرالات؟ لقد سحرهم الوحش الكامن فيهم فتحوّلوا إلى مصاصي دماء يرضعون من الدم ويشتهون عظام الضحايا إلى درجة يجعلون منها عيدان ضئيلة كي يمشطّوا أسنانهم من لحم المساجين. ذلك الجنرال الذي أصابته لعنة السجون فغزاه القمل ولوّث زوجته ما هو إلا شخصية حقيقية، نعم نحن كقرّاء سنقسم بأنه شخصية حقيقية وجدت في تاريخ الثورة السورية لأنه الشخصية الوحيدة التي جاءت أبعادها دون بتر في الرواية وعرفنا تاريخه كشخصية بشكل نهائيّ، أما فرج وهند/طهران وجفّان/غسان فشخصيات مخاتلة، لاعبة، بهلوانية، ومبتورة عن تاريخها الروائي.

تصرخ هند في آخر الرواية: “جميع الأسماء من صنع يديك أنت”.

هدأ الجنون في أدمغتنا إذن، نعم يجب أن نهدأ، أن نتنفس القليل من الهواء. فكلّ ذلك التلاعب بين الحقيقة والوهم وبين الوضوح والالتباس كان من صنع الروائي، كان نتيجة بهلوانيته الخطيرة، وكان نتيجة وعيه الحادّ بالأسلوب الكتابي الذي اختاره، وبنية الرواية التي قدّها على نحو ميتاروائي. ولكن هل سنصدق هند ونعترف معها أن جفّان هو فعلا غسان الجباعي مؤلّف الرّواية؟ وهل سنصدقها حين صرّحت معترفة بأن غسان الكاتب احتضنها حقيقة؟

لاحظ معي أيّها القارئ: إنّه بمجرّد أن نطرح هذه الأسئلة المشككة سنكون قد سقطنا في فخاخ تخجلنا، ألا ترى معي أنّ “قمل العانة” ورّطتنا لنتحوّل من قرّاء إلى ما يشبه الصحافي الاستقصائي أو رجل الأمن الباحث عن الحقيقة؟

يا لهذا القلق المدمّر الذي أعاد الجنون إلى أدمغتنا !

هل سنغرس أصابعنا الآن في شعرنا كي ندلك رؤوسنا من شدّة التوتّر أم إنّنا سنوظّفها لحكّ جلودنا وقد خرج القمل من تلك العانة ليسري مثل النار على أجسادنا؟

باطل ما نطرحه من أسئلة، باطل الأباطيل أن نستمرّ في طرح الأسئلة. طبعا فنحن لم نعد نستطيع الكتابة عن الرواية لأنّ قملها حرم أصابعنا من التركيز على لوحة الحاسوب، جلودنا في حاجة إلى القليل من الحكّ، لنعد إلى أجسادنا، لنكتشفها مثلما اكتشفت هند ذلك القمل على جسد ذلك القذر، ولنصعد مع جمالية هذا القبح ونعترف بأنّ هذه الرواية كنز رهيب ومروّع، بل هي مخزن يختزل كل الطاعون المحدق بنا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*