حدث ذات عيد.. كل عام ونحن بخير

زيتون – سحر الأحمد

بعد خمسة عشر يوماً، وأنا في قبري الأسود، (المنفردة) أقصى أسفل أقبية “القوى الجوية للجيش” صدر أمر ترفيه بحقي.

فُتح باب زنزانتي، ظهر رجلان لا تبدو عليهما علامات الرجولة! أحدهم كبّلَ يديَ الى الخلف، بشريط أبيض مُسنن، بينما اهتم الآخر بتغطية عيوني بقطعة قماش سميكة بنية اللون، وزجوني بحافلة، عرفت أني لستُ وحدي فيها، فور انطلاقها بدأت الهمهمات والهمس وصوت أحدهم يزجر ويشتم بأعلى صوته “يا أولاد … اخرسوا” بعد مدة من الوقت توقفت الحافلة، وسحبني صوت أجش، مشينا قليلا، فجأة! توقف الرجل المجهول وحرّر يدي.

تنهدتُ وأزحتُ “الطمّاشة” عن عيوني، بعد أن أيقنتُ أني من جديد أنا والصمت، والاعتقال ما زال سيد المشهد.

تجولتُ بنظري على سكني الجديد، فهو شبه غرفة تقول أن التتار مروا من هنا، مصنوعة من الألمنيوم، سقفها أكل منه الصدأ جزءً كبيراً، أما الجدران كأنها بسباق وتحدِ مع السقف، من يتهاوى أولاً.

بدأت أتعرف على هذه الجغرافيا الصغيرة، وقع نظري على أريكة مهدّمة، فقدت اثنتين من أرجلها، وعُري وجهها بحكم التقادم، مما جعل أحشاءها تجلس عليها عوضاً عني.

لكن لا بأس، فرحتُ بهذا المكان قِياساً بقبري السابق،فقد كان بضع بلاطات ملساء تفوح منها رائحة العفن والدم، أما هنا لي أريكة قذرة ملآى بالغبار فقط.

هنا الوقت لا يمرُ أبداً، أشبهه أنا برجل بُترت قدماه، ويطلب منه سجانوه تحت التعذيب أن يمشي.

جلستُ على الأريكة وتفاديت أن أقع منها أكثر من مرة،لأكمل جولتي في هذا المكان المثالي لمعتقلة.

على الحائط المقابل هناك فتحة دائرية تتدلى منها حزمة “كابلات” طويلة ترامت نهاياتها وانكشف المعدن عن البلاستك وتُركت على أرض الغرفة متقاسمة مع الأريكة وبعض سجُاد بالي وسخ ملفوف بطريقة فوضوية، المساحة.

من المؤكد أن هذا المكان كان أحد غرف التعذيب وحصل على ترقية مثلي فأصبح مستودع بائس.

لأيام لا أريد أن أُقرُ بها، ساكنني الصمت والفراغ والكثير الكثير من الأفكار، تعبت من مضغ الكلمات بيني وبيني، فالكلمة لم يعد لها معنى سوى أنها كلمة داخل كلمة.

قررت أن أخرج من هواجسي وأفكاري وألهو قليلاً، فمنظر السجّاد الممضوغ المتهاوي يُزعج عيوني كلما نظرتُ إليه، رحتُ أبسط السجّادة وأُعيد لَفها بشكل متقن، الى أن وصلت لآخر واحدة، بعد أن فردتها كان بداخلها قصاصة ورقية،تعود لإحدى الصفحات من جريدة “الثورة” المحلية! كُتب على طرفها بخط أنثوي جميل:

“أبنتي ريم .. غاليتي رنا: ها قد أتى العيد، ولأول مرة لا أكون معكما! لست أدري كم من الأعياد سنبقى كذلك! إذا قُدر لي ولم تفض روحي وخرجت من هذا الجحيم وأنتما مازلتما فوق التراب، لأن الحياة لم تعد متاحة للجميع، سأضمكما الى قلبي حتى تعصر أضلاعكما أضلاعي وأقول لكما.. كل عام ونحن بخير”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*