
زيتون – عدنان صايغ
في تجربة فريدة كان نتيجتها كتاب بعنوان “أدب الصداقة”، تبادل فيها روائي سعودي مقيم في دمشق ورسام سوري مقيم في ألمانيا، رسائل شخصية لم يكن مقررا لها أن تنشر، يظهر فيها كل منهما ما يدور في فكره وما يعتريه من هواجس وأحلام، في أدب جم وأسلوب يعكس ماهية شخصيتهما.
يقول فواز طرابلسي في مقدمته للكتاب: “هذه المراسلات قصة صداقة، صداقة سابقة على بدء التراسل، وصداقة تجلت وتطورت أثناءها ومن خلالها.
ويشدد مقدم الكتاب على كلمة “أدب” بمعناه الأرحب، إذ تخلو صفحات الرسائل بين الصديقين من أية كلمة نابية بحق أحد، دون حذف أو رقابة، دون نميمة أو تعريض، في تواطؤ مشترك للوصول إلى الحقيقة والجمال، بروح تملؤها النخوة والدماثة والوفاء بينهما.
تبدأ الحكاية بعد زيارة قام بها الروائي “عبد الرحمن منيف” إلى ألمانيا، التقى فيها بصديقه مروان قصاب باشي، وبعد عدد من اللقاءات القصيرة وزيارة منيف لمرسم قصاب يفترق الصديقان ليكملا حديثهما عبر رسائل فيها من البوح ما يجعلها وثائق ومكاشفات حول مراحل العمل الأدبي والفن.
فصاحب “مدن الملح” و”أرض السواد” و”شرق المتوسط” و”النهايات” والروائي العربي الأبرز تضيق به الكلمة حتى يكاد يرى أنها تعهرت، ويصبو إلى اللون والرسم، عله يستطيع أن يقول بالشكل ما تعجز عنه الكلمات، بينما يظهر قصاب في رسائله وقد ضاق ذرعا بما لديه، ويريد أن يقول ويصرخ، غارقا في حوار عميق ما بين اللوحة وقماشها، ما بين اللون والضوء، ما بين الظاهر والمخفي من اللوحة.
تعاني الرسائل الثلاثين من مستجدات الأمور، إذ تتوقف لشهور بعد الغزو الأمريكي للعراق، ما يدخل منيف في حالة من الحزن والإحباط، مفرغا فيما بعض أفكاره ومواقفه السياسية برسائل لاحقة لقصاب.
وتكشف المراسلات مناجاة روحين ثائرتين، يتنبأ منيف بثورات الشعوب العربية قائلا:
يرد عليها قصاب: “نحن مرضى الأمل والمهم هو النور”.
يقدم الكتاب منافع عدة للقارئ لا تقتصر على أدب الصداقة بالمعنى الأخلاقي، بل إن ما تفضحه الرسائل من وسائل المبدعين، وخططهم التي يعالجونها في صبر وألم، ومعاناتهم في خلق المعنى والكلمة واللون، والحفر بدأب مستمر حول اكتشاف الجمال، هي أكبر كنوز هذا الكتاب، وتتبدى تلك الخطط فيما يتبادله الصديقان من بوح صريح حول مشاكلهما وما يبحثان عنه، وفي تأسيس ذلك التواطؤ اللذيذ بين متآمرين على الفن والأدب.
تهدف الرسائل بما تحتويه من ذلك العمق إلى سعي منيف لكتابة سيرة حياة صديقه، والذي صدر بعنوان “مروان قصاب باشي: رحلة الحياة والفن”، الصادر عام 1997، ما يزيد من قيمتها الأدبية وبعدها الإبداعي.
نشرت الطبعة الأولى من كتاب “أدب الصداقة” عام 2012، بعد وفاة عبد الرحمن منيف، عدد الصفحات 448، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع.
مروان قصاب باشي في سطور:
رسام دمشقي مقيم في ألمانيا وهو صاحب الرسومات التي تتصدر أغلفة روايات عبد الرحمن منيف، من مواليد دمشق 1934، توفي في برلين 2016، وأحد أبرز الفنانين التشكيليين العرب في العصر الحديث، ومن بين الفنانين الأكثر حضورًا في المعارض الدولية. اختصت رسوماته بصورة «الوجه الإنساني» المعذب.
وعن مروان جاء في وكيبيديا: امتدت رحلته مع الإبداع التشكيلي عقودا من الزمن، وتوجت باعتراف عالمي واسع، واقتنيت أعماله من قبل أهم المتاحف في العالم. كان عضواً في المجمع الفني البرليني الألماني، وهو أستاذ دائم ومتفرغ للرسم في المعهد العالي للفنون الجميلة في العاصمة الألمانية منذ عام 77م وحتى وفاته. بقي مروان وهذا اسمه الفني المختصر، يرسم حتى آخر أيام حياته، وودع الحياة بعيداً عن دمشق التي كان قد غادرها قبل ستة عقود من رحيله.
هاجر مبكرا إلى أوروبا ودرس الفن التشكيلي في معقل التعبيرية الألمانية (برلين) التي أقام فيها طوال حياته، وكان قد أمضى فيها ما يقارب الخمسين عاماً قبل أن يعود إلى بلده سورية عام 2005 ليشارك حينها بتظاهرة فنية كبيرة أقامتها المفوضية الأوروبية برعاية من وزارة الثقافة السورية.
ويصف فواز طرابلسي مروان بأنه من الفنانين القلائل الذين انتسبوا فكرياً وعاطفياً إلى عالم الشعراء والأدباء، ولعلّ كتابات هؤلاء هي التي أعطت نفساً جديداً وروحاً نابضة ورؤى متنوعة لوجوه مروان التعبة. ينتمي مروان لنوع نادر من الفنانين الذين يؤمنون بأن الفن ليس مجرد جمال سابح في الفراغ، بل هو فعل أخلاقي يربط المتعة والفرح بالحقيقة، بحسب تعبير منيف.
انتسب مروان إلى كلية الآداب جامعة دمشق في عام 1955، ثم هاجر إلى ألمانيا ودرس التصوير في المعهد العالي للفنون الجميلة، وفي عام 1977 أصبح أستاذا في المعهد العالي للفنون الجميلة في برلين، كما اختير عضوا في المجتمع الفني الألماني.
عبد الرحمن منيف:
أديب وناقد سعودي، يعُد واحداً من أهم الكُتاب والرِوائيين العرب خلال القرن العشرين، وهو مفكر وناشط سياسي، عمل خبيراً اقتصادياً وكاتباً صحفياً، ثم مؤلفا روائيا وقاصاً.
ولد في عمان عام 1933م وعاش فترةً من طفولته في ظل إمارة شرق الأردن ثمّ في السعودية.
أتم مراحل دراسته الأولى في الأردن وحصل منها على الشهادة الثانوية سنة 52م، ثم انتقل إلى العراق والتحق بكلية الحقوق في بغداد حتى عام 1955، إذ جرى إبعاده بقرار سياسي مع مجموعة من الطلاب العرب.
انتقل إلى مصر لإكمال دراسته هناك. ثم انتقل إلى يوغسلافيا حصل فيها عام 1961 على الدكتوراه في الاقتصاد، وعمل بعدها في الشركة السورية للنفط.
غادر إلى بيروت عام 1973، عمل في مجلة “البلاغ” اللبنانية، تزوج خلال تلك الفترة من سيدة سورية تدعى سعاد قوادري وأنجب منها ثلاث أبناء وابنة واحدة.
عام 1975 عاد ليقيم في بغداد، وتولى تحرير مجلة «النفط والتنمية» العراقية، ثم غادر إلى فرنسا متفرغاً للكتابة.
عاد إلى دمشق عام 1986، حيث صارت مقر إقامته الدائمة، إلى حين توفي، وبها دفن، بناء على وصيته.