“أنطون كوين العرب”، “القاسم المشترك”، ” أحد أفضل خمسين ممثلا في العالم حسب مجلة التايم”وغيرها من الصفات، أطلقت على الفنان السوري خالد تاجا، الذي تمر الذكرى التاسعة لرحيله اليوم.
ريما لا يعني السوري اليوم من هذه الألقاب شيئا، وهو يتلمس وجوده في جحيم بلاده، كما لم يكن يعنيه من الفن والفنانين إلا ما يدعم هذا الوجود، ويدافع عن ثورته وبقائه، وربما بات الفارق الوحيد لديه ما بين الفنان والمهرج هو ما يتخذه هذا الفنان من موقف واضح من قضيته، فلا شيء سيقنع السوري بإبداع ممثل ما، إن لم ينحاز هذا الفنان إلى صفه ضد السلطة.
هذه المقاربة على بساطتها لكنها تلخص كل الإشكاليات التي تتناول دور الفن والأدب والإبداع، ومن البديهي أن تنحصر صفة الفنان في أولئك الذين يقدمون فنا ذو قيمة وهدف، فنا ذو رسالة ومعنى لصالح المجتمع، أولئك الذين لا يرددون رواية السلطة الرسمية ويجملونها لتضليل الناس وإخفاء الحقيقة مقابل ميزات القرب من أجهزة الأمن والخوف من بطشها.
تاجا الذي لا يقنع بمقولة الفن للفن، يؤكد أن الفن هدفه الناس، ولذلك فإن فنانا بدون مشروع لن يصبح فنانا حقيقيا أبدا، ويعيد تاجا مرارا وتكرارا واجب الفنان في الكشف والتعرية والتغيير، لا تسكين الألم وتسلية المجتمع.
بهذه المقاربة أيضا يمكن أن نفهم لمَ أحب السوريين الفنان خالد تاجا، وحتى قبل أن تبدأ الثورة السورية، ففي لقائه الجريء مع قناة الأورينت عام 2009، تحدث تاجا بضمير السوريين دون تردد، متجاوزا الخطوط الحمر التي رسمها النظام السوري متوعدا من يتجاوزها بمصير أسود، جاء فيها:
“نحن ممنوع علينا أن نطالب بحقوقنا، ممنوع نقاتل أسمنا إرهابيين، ممنوع أن نحكي وأن نعبر عن رأينا ولو بالكلام”، “البندقية مخيفة والسلطة مخيفة والسجون الموجودة مرعبة والنظام لا يرحم، لكن البلدان لا تتحرر إلا بالدم، الناس لن تصبر على الظلم مدى الحياة”، كما وصف الحالة السياسية في المنطقة العربية كلها بـ “المزرية والمخجلة”، متسائلا كيف يمكن للحكام العرب أن ينظروا إلى أنفسهم في المرآة”.
بهذه الكلمات يثبت الفنان خالد تاجا دوره الرائد كفنان أصيل يسبق محيطه، يمشي في مقدمة مجتمعه، ويحرض على الثورة، لا يتلطى خلف مفردات مبهمة، ولا يأخذ لونا رماديا، كما لا يأخذ دور المزهرية في الصمت أمام ما يجري، ولهذا كان من المألوف موقفه الداعم للثورة منذ انطلاقتها.
عن طفولته يقول في أحد لقاءته المصورة: “في طفولتي كنت شقيا وغريبا، كنت إن بكيت لا أصمت، وإن ضحكت فلا أتوقف، كنت أشعر أني طير حر، لا شيء استطاع أن يأخذني من حريتي، لا حزبا ولا فكرا ولا إطارا”.
ويضيف: “قبل كل شيء، أنا إنسان، أنتمي إلى الإنسانية، بغض النظر عن اللون والعرق والانتماء، ما يهمني من الإنسان هو عمله”.
“أنا كردي، ولا أتحدث الكردية، رغم تشرفي بهذا الانتماء، لكنني لم انتم لشيء، بقيت خارج السرب في قضية الانتماء، ومن هنا دفعته إنسانيته إلى كتابة قصيدة لرثاء الحقوقي الأمريكي لوثر كينغ، وضع فيها تاجا نظرته للإنسانية وهو في سن مبكرة من شبابه، قال فيها:
“أمريكا تنظم الوجود وتدمغ الجلود
أمريكا تصنف البر وتصنع الحدود
وتمنع الزنوج من رؤية النصب الذي أقيم في طرف المحيط
لمن دفن هناك وفقد الحياة
من أجل تمثال صمم قضت الظروف أن تنسلخ عن روحها أمريكا
يا أخوتي الزنوج يا شركائي في الدخول إلى الحياة وفي الخروج
يا شركائي في الهواء والمياه وفي الشجر
قفوا معي ورددوا هذا القسم
باسم الدموع الهامرة.. على اللحوم الضامرة
سنحطم هذا الحجر
ونصنع ابتسامة تغمر البشر
ونمتطي سروجا نسيجها خيال تحملنا بعيدا عن عالم الجسد
سروجا بروجا تنام في السهول تعانق السماء لأنها سماء
سنركب حصانا كذاك البراق حصانا مجنحا له ألف ساق
ونطوي التلال ونطوي الجبال ونطوي الصحارى بلمح البصر
لنسأل عن بشر تائهين ونحملهم معنا للضفر
نحضنهم لأننا بشر.. لأنهم بشر
أخوتي الزنوج.. صيفكم آت ولن تبقى الثلوج”
ومن غير المستبعد أن يكون موته تصفية من أزلام النظام، كما رجح البعض، أثناء تواجده في المشفى، انتقاما منه على مواقفه المعارضة للنظام.
لا يعترف تاجا بالموت إلا حين يغلق المرء فكره، ولا مكان للموت مع انفتاح الإنسان، بهذا المعنى يمكن أن يبقى الإنسان حيا بإرثه الفكري والفني، حتى بعد موته، وهو ما يؤكده واقع الحال من استعادة ذكرى الفنان خالد تاجا بعد تسع سنوات، واستمرار محاولة السوريين تلمس أعماله وأقواله.
رحل تاجا في 4 نيسان 2012 عن عمر ناهز 72 عاما، بعد صراع مع المرض، ودُفن في القبر الذي أعدّه بنفسه قبل وفاته كاتباً عليه: “مسيرتي حلم من الجنون، كومضة شهاب زرع النور بقلب من رآها، لحظة ثم مضت”.