(لن استسلم وسأقاوم حتى أعيش)
بهذه الكلمات المتحشرجة بسيل من الغصات كاد يوقف صوته، عاد أبو مهند الرجل الأربعيني الذي قطعت رجله بقذيفة نابلم وحرقتها، وأحرقت معها مستقبل الرجل.
لا تنتهي رزايا الحرب بصمت هدير المدافع بل إن لها آثارا تبقى سنين طويلة بعد ذلك.
الحرب التي تدمر حياة من عايشها والأقسى من هذا هو من أصيب بها وبقي يحمل جراحها حتى آخر يوم في حياته.
في الحقيقة لا يوجد احصائية دقيقة لعدد مصابي الحرب السورية التي ما تزال مستمرة منذ أكثر من عشر سنوات.
لكن كم وصل عدد هذه الحالات ونحن في عام 2021، يقول البعض إنها ربما تجاوزت المليون حالة.
ترى من هؤلاء؟
كيف يعيشون؟
وما هي معاناتهم؟
إنهم أكثر الناس المتضررين من قباحة الحرب لأنها أدت إلى إعاقة دائمة غيرت حياتهم، كأبي مهند الرجل الأربعيني المتعلم والذي فرضت عليه الحرب التنقل في أكثر من مكان بريف حلب الشمالي هربا من سطوة التنظيم الذي كان مسيطرا على أجزاء واسعة من الريف.
تعرض أبو مهند لقذيفة حارقة أحرقت معظم جسده وبترت رجله، وافقدته معها القدرة على المشي.
كان ذلك اليوم فارقا لأبي مهند لأنه فقد القدرة على إعالة أطفاله الخمسة، وانزوى عن الناس بسبب الضرر النفسي الذي رافق الإصابة.
لم يقدم أحد الرعاية الطبية لأبو مهند وفي نفس الوقت لم يكن الرجل يملك المال الكافي للعلاج على نفقته، وأدار المجتمع ظهره لمصيبة الرجل حتى أنه أصبح يتمنى الموت للخلاص من هكذا (عمر)، كما يقول.
ويتساءل أبو مهند في كثير من الأحيان، لماذا هناك العديد من الجمعيات التي تدعي رعاية السوريين وهم لم يستطيعوا توفير علبة دواء واحدة لي؟
ويبقى هذا حال أبو مهند لا معين له في حياته، معلق بين الحياة والموت، بين اليأس واللا أمل، ولم تكترث الجمعيات الخيرية لمساعدته على الأقل في تركيب طرف صناعية، تعينه على المشي ولو بشكل بسيط.
قصة أبو مهند ليست الأولى ولا الأخيرة بل هي صورة من مئات الألاف من الصور القاتمة قتامة الحرب السوداء.
فآلام أبو مهند كانت قريبة جدا من آلام “حسن” الشاب الذي عمل ممرضا متطوعا في أحد المشافي الميدانية بمدينة حلب.
ولك أن تتخيل المخاطرة التي تتعرض لها الطواقم الطبية في سبيل إنقاذ حياة الناس من براثن الموت بعد وصولهم إلى المشافي الميدانية شبه أموات ليقوم الأطباء بمحاولة انقاذهم.
وفي ظل إجرام نظام الأسد الممنهج المتمثل باستهداف المشافي والنقاط الطبية المدنية تم قصف المشفى الذي يعمل فيه المتطوع حسن، والنتيجة بترت قدم الشاب العشريني، وفقدان الحركة في الرجل الأخرى.
لم يتلقى حسن أي علاج بعد خروجه من المشفى، بل ترك ليواجه مصيره مع أطفاله الثلاثة.
يحتاج حسن إلى رعاية طبية وأدوية ومساعدات، وهو يعيش الآن على هامش المجتمع مهمشا من القيام بأي دور له.
يحمل حسن الذنب فيما يحصل معه على الجمعيات التي لم تلتفت له ولأمثاله، فهل هناك من يستحق العناية أكثر ممن قدم جسده في سبيل إنقاذ حياة الناس؟، يتساءل حسن مستهجنا.
كما لم تقتصر حالات الإعاقة على الإصابة بالحرب، أيضا هناك حالات من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين ولدوا كذلك، ونتيجة الحرب لم يتلقوا أي مساعدة، ما أدى إلى تفاقم معاناتهم، كحالة الطفل “حميد الحسن” حيث قتل والده ليلة ولادة حميد، فجاء إلى الدنيا يتيما.
وليزيد شقاء الطفل، فقد تخلت عنه أمه بعد يوم واحد من ولادته ليصبح يتيم الوالدين، لكن القدر يشاء أن يتكفل به عمه ويربيه مع أطفاله.
لاحظ العم أن حميد ليس طفلا عاديا فهو لا يستطيع الحركة ولا يستطيع الوقوف مثل أقرانه من الأطفال في مثل عمره.
وعندما تم عرضه على الطبيب ظهر أن لدى حميد شلل نصفي في أطرافه السفلية، فأي حياة حملها القدر لهذا الطفل بلا أب ولا أم، وأخيرا شلل يرافقه طوال حياته.
لم ييأس العم وبدأ باصطحاب حميد إلى الأطباء في محاولة يائسة لدب الحياة في قدمي هذا الطفل التعيس، لكن العلاج مكلف جدا والمعالجة الفيزيائية مأجورة ومكلفة جدا، خاصة مع وضع العم المادي الذي لا يكاد يستطيع أن يسد رمق عائلته من حاجيات المنزل، لذلك وقف العم عاجزا عن مساعدة حميد، حتى أنه بات لا يستطيع النظر في عينيه التي تشخص إلى سقف الخيمة.
أيضا يلقى العم همه على المنظمات التي أدارت ظهرها لمعاناة هذا الطفل الذي لا يعلم أي شيء يدور حوله.
هؤلاء الذين تنصلت المنظمات والجمعيات الإنسانية عن مساعدتهم، فكثير منهم يحتاجون إلى علاج وأدوية يومية والبعض يحتاج لأطراف صناعية، وهم كما يقولون لا يريدون أن يكونوا شحادين على أبواب الجوامع بل يحلمون بأن يكونوا أشخاصا يعيشون حياة طبيعية ويستطيعون إعالة عائلاتهم.
ربما كلمة من القائمين على منظمات المجتمع المدني قد تكفي لتشحن حياتهم بطاقة إيجابية تدفعهم إلى الأمام، لكن هل هذا يكفي؟؟.
ويبقى هذا السؤال وغيره من الأسئلة معلقا يحتاج لمن يجيب عليه، والسؤال الأهم، ترى من يتحمل مسؤولية هؤلاء الذين دفعوا ثمن الحرب التي ربما لم يكن لهم أي دخل فيها، حتى أنهم لا يعلمون لما حصلت ولا متى ستنتهي، يعيشون معاناة يومية في إعاقة ترافقهم حتى آخر حياتهم، لا ذنب لهم سوى أنهم سوريون كانوا في الزمان والمكان الخطأ.
ياسمين أصلان