الرجل الطموح.. وحلمه الضائع بعد الموت.. الشهيد إياد أحمد مصطفى الأزن

كان مولعاً بأولاده جداً، ولا يشغله سوى دراستهم وحياتهم، وكثيراً ما يحدثهم عن آماله بهم، وعن أحلامه برؤيتهم أطباء وصيادلة مثل أعمامهم، إذ كان الوحيد الذي لم يكمل تعليمه بين إخوته، نظراً لاستلامه مكان والده في العمل بمجال المنظفات.

كان مصراً على إكمال أولاده دراستهم، ويعمل ليل نهار لتأمين متطلباتهم، ويسافر بين المحافظات لأجل ذلك، كانت سعادته كبيرة حين التحق ابنه الأكبر بالجامعة، وكان فخوراً جداً به، ولكن لم يتابع فيما بعد أي من أولاده تعليمه.

لدى “إياد مصطفى الأزن” ثلاثة أبناء من زوجته الأولى، هاجر الشابان الأكبر والأوسط إلى ألمانيا عقب إبلاغهما بنبأ استشهاد والدهما، وبقي الشاب الثالث مع والدته في قريتهم معرشورين، بينما عادت زوجة الشهيد إياد الثانية مع أطفالها الأربعة إلى قريتها تلمنس.

اعتُقل “إياد مصطفى الأزن” مواليد كانون الأول عام 1975، بينما كان مع ابنه وبعض الطلاب في منزل بحماة، ليتقدم ابنه لامتحانات الشهادة الثانوية لعام 2012 هناك، وفي مساء أحد أيام الامتحانات، وبينما كان ابن إياد وزملاؤه يدرسون للامتحان، اقتحم ثلاثة رجال المنزل، وحاولوا اعتقال إياد، فحاول مقاومتهم، والتخلص من أيديهم والهرب، لكنهم ضربوه ورموه من أعلى درج المنزل للأسفل، ثم اقتادوه بسيارتهم إلى جهة مجهولة، ليعود ابنه دون أن يتابع امتحاناته.

بين ابنها الوحيد الذي بقي إلى جانبها، والذي كان يتنهد بين الفينة والأخرى، وهو يعيد بذاكرته تفاصيل اعتقال الوالد واستشهاده، وبين شجيرات في الخارج كان قد غرسها إياد بيديه في حديقته الصغيرة التي دأب على الاعتناء بها قبل اعتقاله، كانت زوجته الثكلى تتنقل بعينيها وهي تتحدث عن خسارة زوجها، وتشرد.. أولادها ودمار حياتهم ومستقبلهم، وضياع حلم زوجها الشهيد، بوجع لا حدود له، بدا واضحاً في حشرجة صوتها، التي كانت تزداد كلما وقعت عيناها على ابنها المكلوم.

أما ابنها فقد كانت عيناه تشتعلان غضباً وهو يقول: “اعتقل والدي في حزيران عام 2012، ولكننا لم نعلم باستشهاده حتى حزيران عام 2017، وخلال تلك السنوات كان أعمامي يحاولون الوصول إليه ومعرفة مصيره عن طريق المحامين، على أمل أن يُطلَق سراحه”.

تدخلت زوجة إياد قائلة: “سعينا كثيراً للوصول إليه، ودفعنا مبالغ طائلة لإطلاق سراحه، ولكننا لم نحصل على أي مساعدة، وحتى المحامون الذين أوكلنا لهم الدفاع عنه لم يتمكنوا من إنقاذه، كانت كلها عمليات نصب فقط لا غير”.

نبأ الاستشهاد وردة فعل العائلة

“كنا نحيا على أمل عودته، إلى أن أبلغنا أحد المعتقلين الذين أُطلق سراحهم، أن إياد استشهد بين يديه في سجن صيدنايا” قالت زوجة إياد والألم يعتصر قلبها، مضيفةً: “سبّب الخبر لنا فاجعة كبيرة، وخسائر كثيرة، ليست مادية، وإنما أكبر من ذلك بكثير، فقد خشيت على أولادي عندما علمت باستشهاد والدهم، فترك ولدايَ الأكبر والأوسط تعليمهما وهاجرا إلى ألمانيا، بينما بقي ابني الأصغر معي، ولكنه ترك هو الآخر دراسته، وبعد أن كان المدلل أصبح يعمل في أحد المطاعم، ويتحمل ظروفاً قاسية لم يعتدها من قبل، أما أولاد إياد من زوجته الثانية، فعمر أكبرهم 16 عاماً، وأصغرهم طفلة في السادسة، تنادي شقيقها “بابا حمودي”، وكأنها ترفض أن تعيش حياتها دون أب”.

أصبحت الدموع سيدة الموقف، ليسود الصمت لفترة قبل أن يستدرك ابن إياد الموقف، ويخرج عن الصمت معبراً بنفسه عما يجول في خاطره بعد استشهاد والده قائلاً: “كان أبي يهتم بنا كثيراً، ولم يكن يسمح لنا بالعمل حتى معه، يستأجر عمالاً ويوصينا بالاهتمام بدراستنا فقط، وها أنا ذا تركت دراستي واضطررت للعمل كل يوم بعد غيابه”، توقف الابن باكياً ثم عاد ليقول: “كلما تعرضت لمشكلة أو موقف ما، أقول لنفسي لو كان أبي إلى جانبي لأرشدني إلى الحل، وهان كل صعب عليّ، لقد أثر غيابه بي كثيراً، وأنا أفتقده جداً”، احتضن بكاؤه بكاء أمه ليتحولا إلى صرخات وأنات.

بعد اعتقال إياد عانى أولاده حالة نفسية سيئة، وانطووا على أنفسهم، وكانوا يرفضون أي مظهر للفرح، وحتى الأعياد والمناسبات، ومع كل تكبيرة عيد كانوا يتوزعون في أنحاء المنزل، يبكي كل واحد منهم بمفرده، لتبدأ أمهم رحلة مواساتهم والتخفيف عنهم، بينما هي بحاجة لمن يفعل ذلك معها، وأما والدة إياد فقد أصيبت بعد استشهاد ابنها بمرض في القلب من شدة حزنها، ولم تقطع زوجته الثانية علاقاتها بالعائلة، وما تزال الزيارات المتبادلة مستمرة حتى هذه اللحظة.

إياد.. الرجل الطموح

تعلم زوجة إياد أن شهادتها بزوجها مجروحة، على حدّ تعبيرها، إلا أنها تصرّ على ذكر مناقبه كما تراه، فقد كان وسيماً، كريماً، طيب القلب، اجتماعي الطبع، حسن المعشر، يحب أهل بلدته، ولا يتوانى عن مساعدة أي إنسان يلجأ إليه، يفكر بالآخرين أكثر مما يفكر بنفسه.

أذكر أننا في فترة سابقة قبل اعتقاله تعرضت البلدة لأزمة خبز فكان يشتريه من محافظة اللاذقية وينقله على حسابه ويوزعه مجاناً على الناس كما أنه يوزع اللحم بنفسه على بعض أهالي البلدة.

بينما يصفه أحد أصدقائه بـ “الطموح”، المُجدّ في عمله الذي لا يعرف إلى الهزيمة أو الضعف سبيلاً، وإذا وضع هدفاً نصب عينيه فلا بد أن يحققه.

ويؤكد ابن إياد أن تصميم والده على النجاح، وطموحه العالي ورفضه للخسارة والفشل، وتميزه في عمله وعلاقاته، أكثر ما يعجبه في والده، بحسب تعبيره، مضيفاً:

“مع أننا على ثقة بأنه استشهد، إلا أنني لا أحب أن أصدق ذلك، وكثيراً ما أتخيله على قيد الحياة، وأنه سيعود يوماً، وما زلت حتى هذه اللحظة أحتفظ بأغراضه ودفاتره وجهازه المحمول، وأنظر إلى خط يده، وأحلم أن أراه ثانية”.

“ليس هناك خسارة تعادل خسارتي لأبي، وأكثر ما يؤلمني أنه عُذّب حتى الموت”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*