الناجون من الحرب.. هل استطاعوا النجاة حقاً؟

زيتون – مها الخضور

“منذ خروجنا من سوريا في العام 2012 وحتى الآن يراودني نفس الكابوس كل ليلة تقريبا فأتخيل نفسي محتجزا مع عائلتي وبعض الجيران في قبو تحت الأرض وأصوات القذائف المدوية تملأ المكان ثم يضيق نفسي كثيرا وأشعر بالاختناق من شدة الغبار وأنظر إلى الآخرين فأرى الجميع يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأشعر بالموت قريبا جدا مني بعدها أصرخ بأني لا أريد أن أموت ثم أصحو فأكتشف أني ما زلت حياً”، قال يزن – 13 عام وهو أحد الناجين من مدينة درعا وقد استطاعت عائلته الفرار باتجاه الأردن قبل أكثر من سنتين.

يعيش هذا الطفل كابوساً يومياً منذ أكثر من سنتين وقد تسبب الخوف الشديد الذي واجهه في السابق بمشاكل نفسية وعصبية أدت بدورها لظهور علامات مرضية تنذر بانهيار حالته كالتبول اللاإرادي وعدم القدرة على التكلم بشكل صحيح وقد يكون من الضروري القول أن هذا الطفل ليس سوى أحد “الناجين” السوريين الذين أجبرتهم الحرب على مواجهة مخاوف لم يستطيعوا تخيلها سابقاً مما أدخل الكثيرين منهم في دوامة من القلق والخوف والمشاكل النفسية الأخرى التي يصعب علاجها.


رحل ملايين السوريين عن بلدهم تاركين وراءهم قتلاهم وبيوتهم المدمرة وحياتهم السابقة، لينتقلوا للعيش في بلدان أخرى غرباء يقتلهم الفقر وذلّ من رحل عن داره مرغما.

وقد أجبر أطفالنا على تحمل العبء الأكبر من أعباء الحرب الدائرة في البلاد فكان عليهم مواجهة مخاوفهم وحمل قصص الرعب التي شهدوها بأم العين في صدورهم فأغلبهم شهد مشاهد القتل ودمار منازلهم ومدارسهم نتيجة الصراع وكان على بعضهم الآخر تحمل المزيد من الألم نتيجة التشرد واللجوء مع من تبقى من عائلاتهم مما ساهم في تأصيل حالة الصدمة التي ألمت بهم وتطورها نحو المزيد من التعقيد.


نجا أحمد – 7سنوات مع بعض أفراد أسرته من حي القرابيص في حمص وبرغم وصوله إلى السويد قبل أكثر من عام إلا أن مخاوفه لم تنته، كما أن نتائجها لا تزال واضحة في تصرفاته فهو يضرب رأسه بيديه ويصرخ باستمرار.

وقد وضحت المعلمة مارييلا حالة الطفل أحمد بقولها: “لقد أصبت أنا شخصيا بالصدمة حينما طلبت من الأطفال أن يرسموا أي شيء يخطر ببالهم فرسم أحمد وجها لإنسان ولكن الوجه كان بعين واحدة ، وعندما سألته عن الصورة شرح لي أنه رسم وجه والده حسب آخر مشاهدة له بعد وفاته وقد اقتلعت إحدى عينيه في سجون النظام”.

أما والدة الطفل المنكوبة بوفاة زوجها وإخوتها فقد علقت على حالة ابنها بكلمات قليلة جدا لكنها مؤلمة إلى ما لا نهاية بقولها: “ابني ضاع كما ضاع كل السوريين!!”.

يحمل الناجون من سوريا في صدورهم صور الموت ورائحة الدمار التي ترافقهم أينما حلوا في بلدان اللجوء، ويجدون أنفسهم مضطرين لتحمل المزيد من العذابات الجديدة يوميا.

فأغلب اللاجئين قد ضيعوا ما ادخروه طوال حياتهم خلال أشهر قليلة في دول الجوار التي تعاني أساسا من غلاء المعيشة إضافة إلى انخفاض قيمة الليرة السورية، كما أن بعضهم فقدوا كل ممتلكاتهم قبل مغادرتهم، ليجدوا أنفسهم فجأة وبكل قسوة تحولوا من مواطنين يعيشون في بيوتهم ويذهبون إلى أعمالهم إلى لاجئين يتسولون ثمن الخبز لأطفالهم ومأوى يقيهم عيون المتطفلين وبرد الغربة.


أم أيمن – 28 عام وهي إحدى اللاجئات في مدينة عنتاب التركية وقد هربت مع أبنائها الثلاثة بعد اعتقال زوجها وإخوتها في مدينة داريا قالت: “قبل الثورة كان لنا بيت كبير بناية من أربعة طوابق كنت أسكن مع زوجي وأطفالي في شقة منها وباقي الشقق لإخوة زوجي وعائلاتهم، أما هنا في تركيا فنحن نتشارك شقة صغيرة جدا لا تتجاوز 50 متر مربع مع عائلة أخرى بسبب غلاء الأسعار”.

وتستطرد للحديث عن سبب مغادرتها لبلدها واضطرارها للعيش كلاجئة فتوضح الظروف التي أجبرتها على الهروب لإنقاذ حياة أطفالها: “بعد اقتحام عناصر الأمن لحينا اعتقلوا زوجي وإخوته فهربت برفقة أطفالي إلى حي برزة وفي شهر تموز 2012 قصفت طائرات النظام ودباباته داريا بشكل عنيف وسمعت أن منزلنا قد سوي بالأرض، بعدها بفترة قصيرة أوقفني العناصر على حاجز زيتون أول حي برزة وعندما قرأ أحدهم أنني من مواليد داريا طلب مني الوقوف جانبا وبدؤا بتفتيشي فسرقوا مصاغي الذي كنت قد لففته بقطعة قماش وخبأته في ثيابي، وبعدها بفترة قصيرة جدا جئت إلى تركيا برفقة بعض العائلات الأخرى ولم نفكر أثناء رحلتنا بالحياة التي سنحياها هنا فقد كان همنا الوحيد هو الوصول إلى برّ آمن مع أطفالنا”.


يروي جميع السوريين قصصا تدمي القلوب ويجترون آلامهم التي سيحملوها معهم أينما حلوا، ولكن العالم اتفق على تسميتهم “ناجين” فهل نجونا حقا أم أنها مرحلة عذابات أخرى حيث سيتوجب على كل سوري خارج البلد أن يعيش تحت وطأة ظروف اللجوء التي اعترف العالم بقسوتها اللامتناهية دونما تقديم أية حلول بديلة، وبالتزامن مع تلك الظروف سيحمل هؤلاء السوريين أوجاعهم وذكرياتهم في طيات القلوب ويبتسمون بسخرية عند سماعهم عبارة “الناجون” وهي تتردد على شاشات التلفزة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*