بين وطن ضائع ووطن بديل؟

بين ماض مثقل بالجروح، وحاضر موجود وغير موجود، ومستقبل مجهول، اتصال هاتفي من النرويج، خطة مدروسة للخروج من أزمة الاسعصاء في بيروت، من تركيا إلى أثينا مبالغ منهوبة ومشاعر محطمة وبين «مرمريس» و»سيمي» قصة تروى بحروف وأحداث لن نأتي على ذكرها بين السطور لما تحمله من معاناة يعجز اللسان عن وصفها، وحفظا لمشاعر القراء نكتفي بما يأتي.
أيلول شهر الكآبة، طقس متقلب ومزاج متعكر، وأمواج تتخبط ورؤوس تتخبط، وصخور تتفتت وأرواح تتمزق كانت رحلة أيامها عندما تعد قليلة لكن بالنسبة لمن عاشها لا تحصى، 23يوما بين «أزمير، بدروم، مرمريس»، كتاب يفتح وبقعة ضوء على معاناة الكثير من السوريين..
بين من خرج هربا من الموت، ومن خرج باحثا عن فرصة لحياة افضل، كان على الجميع أن يواجهوا موتا أبيضا، فإما الموت غرقا أو العودة إلى موت محتم..
في غمرة اليأس تأتي كلمات تكتب بالدموع لا بالحبر، تكتب كلمات وقعها على الورق أقوى بكثير من وقع الخناجر على الجسد، يتهيء لك في لحظة بأن كل شيء انتهى، فها هو الحب على البسطات يباع، ثمنه ارخص بكثير من ثمن الوشاح المعلق على باب الدكانة، ها هي الدماء تسير مع ماء المطر في الشوارع، وربما هي اكثر من ماء المطر، وصوت الرصاص يصيح مع الوجع، والناس تتاجر بآلام الناس، والمباني تسقط كما تسقط الثمار من على أغصان الشجر، انتهى كل شيء .. أجل حتى أنت يا صديقي يتهيأ لي أنك هرمت، وأنك في كل لحظة تتلاشى.. حتى كأنك تكاد تنتهي .. أما عني، لا تسأل فربما اثيري من يحدثك، فقد سمعت اشاعة تقول بأنني انتهيت.. وأخرى تقول بأن الدولار انخفض، وأخرى تقول بأن العيد هذه السنة لن يكون كأي عيد، ومن يدري هذا العيد أين سنكون إن بقينا على قيد الحياة..
أنا لم أخرج من وطني هربا من الموت، خرجت بحثا عن حياة أرد فيها الجميل أو شيئا من الجميل الذي قدم إلي، شيء من ما من الله علي به، وشيء مما قدمته لي الحياة، في اللحظة التي كانت والدتي تفارق فيها الحياة، وقد ضمت يدي يدها، أوصتني بأن لا ألتفت إلى الوراء وبأن أمضي طريقي، طريق كان من المستحيل أن يكتمل في قوقعة الخوف .. ليس خوفا من الموت، إنما خوفا من طمس الكلمات، من تغيب ملامح الإنسانية، من تحول ما تبقى من نبض قلوبنا إلى شر فتاك، فمن بقي حيا بقيت فيه روحه، لكن ليس لك أن تسأل عن ما مات بداخله، فبين استيعابنا للموت، واستيعابنا للرحيل، واستعيبانا للغياب، واستعيابنا للتخلي والفقدان، ماتت بنا الكثير من المشاعر..
كان من أبرز ما تتوقف عنده ذاكرتي، التوجه إلى مكتب السعيد للتأمين، وهنا أتوقف لنقل السيناريو الكفيل بالنقل، حبث تشعر بأنك مجرم هارب من العدالة، أو ضحية مكبلة من يديها يتم نقلها من مكان إلى آخر.. في أحد الحارات توجهت مع مرافق يعمل لصالح المهرب إلى مبنى ثم دخلنا من باب صغير، ثم صعدنا درج في غمرة الظلام حتى وصلنا إلى مكتب، قام الشاب الذي يرافقني بقرع الباب، تم استجوابه بعدة اسئلة عن هويته وهوية من يعمل لحسابه ومرافقوه، ثم بعد التأكد من نيته فتح لنا أحدهم الباب، ولك أن تتصور منظر الوجوه المسحوبة اللون، الشبابيك مغلقة، السرير الحديدي المنكوب، عدة رجال، هاتف لا يتوقف عن الرنين، يأتي دوري أتقدم بين مجموعة من الشباب، أتوقف عند رجل يجلس خلف المكتب، يهمس الشاب المرافق لي من طرف المهرب في أذني، اخرجي مبلغ (3500يورو) واعطيها للشاب، اخرج المبلغ في تحفظ شديد، اعطي المبلغ للرجل، يحصيه ثم يدخل يده تحت الطاولة يكتب رقما على الورقة ويعطيني إياه وقد قام بطويها عدة طويات، يسحبني الشاب من يدي، وهو يتلفت يمينا ويسارا، ننزل مسرعين عبر الدرج، نتجه إلى ناصية الشارع يوقف الشاب سيارة أجرة، نركب باتجاه الفندق، وهنا نفترق، على أن نلتقي في اليوم التالي..
ويمر الوقت بوتيرة واحدة، تعيش على انتظار اتصال هاتفي، هذا الاتصال الذي تعتقد بأنه سيغير مجرى حياتك، تعتقد بأن قضيتك الكبرى هي الخروج من تركيا، كما سبق واعتقدت أن الوصول إلى بيورت سيغير الكثير ..
في وطن يسكن أحياءه الخوف، وتسقط عليه العتمة قبل أن تغيب الشمس، وتصمت فيه ملامح الحياة عند آذان العصر، تصبح غايتك الكبرى أن تحيا بسلام، أن يمر عليك يوم دون أن تسمع فيه دوي انفجار، أو عندما يخرج أحدهم أن تبقى مطمئنا بأن لا مكروه بإذن الله سيصيبه.. تلك الأوقات التي اعتقدنا أنها أسوأ الأيام، لم تكن لتقارن بالأسى الذي عشناه داخل الأراضي التركية.. غربة في المشاعر وغربة في الأرض..
يصبح الحنين إلى أصغر التفاصيل قائما، حتى يرن الهاتف وتؤجل الرحلة إلى يوم آخر، إما بحجة الطقس أو بحجة أخرى يختلقها المهرب، ويمر يوم آخر من أطول الأيام، حيث يقع على عاتق الذكريات كل شيء، تنزوي بنفسك تعيد شريط حياتك إلى الخلف، تحن إلى نوع طعام معين، إلى الجلوس في مقهى معين، إلى التحدث مع شخص معين، إلى احتضان شخص مميز، إلى رائحة المطر من قاسيون، ورائحة الياسمين من الغوطة..
تصبح كلمات الأغاني جرعة العذاب التي يتحتم عليك تناولها في كل لحظة تضع فيها سماعات المسجل الصوتي على أذنك، سواء الفيروزيات أم أغاني الطرب القديمة، تصبح الدموع سواء عند الرجال كما النساء، خطوة قد يعلم الناس كم دفعت ثمنها ماديا، لكن من الاستحالة أن يعلموا كم دفعت فيها من عذاب ..
يهزك الحنين في لحظة غضب ويأس إلى العودة، وتمسك نفسك في اللحظات الأخيرة، تعتقد في ذلك الوقت بأنك إذا غادرت تركيا فقد عبرت نصف الطريق ووصلت إلى بقعة الأمان، وأخيرا يأتيك اتصال هاتفي يخبرك بموعد الرحلة، بين فرحة الفرج القريب، وحماس المغادرة، تفاجئ بأن أخاك السوري قد باعك على أول مفرق، وبعد تقسيم المجموعة، تكتشف بأنك وضعت خارج اللعبة، هنا أنت لا تتلقى ضربة واحدة، بل ضربتين، خنجر في خاصرتك وحجر قاسي على رأسك، تحتار بين أن تعود إلى الخلف أم تتابع المسير رغم كل ما حصل، ويعيد السيناريو ذاته من جديد.. ويعود الانتظار ليكون سيد الموقف ..
أيام تتلو أيام، تتنقل بين مكان وآخر، بين فندق ونزل، تراقب أموالك وهي تهرب من بين يديك، وما أصعبها من مواقف تعيشها عندما تتوه في الشوارع ولا تجد أحد يفقه لغتك فيدلك على الطريق، أو عندما يصادفك أخ عربي أتى ليستنفذ طاقاتك ويتاجر بآلامك ..
يوم الحسم، يرن الهاتف، تحزم الحقيبة الوحيدة المسموح لي بحملها، والتي وضعت فيها بعض التذكارات من رحلة العذاب، التوجه في الصباح الباكر إلى نقطة اللقاء، ومنذ تلك اللحظة حتى اللحظة التي يسير فيها القارب، تعيش على أنك مجرم هارب من العدالة، من حيث التكلم بلغة الإشارات، ومن حيث السرعة التي كانت تسير بها السيارة التي كانت تلقنا، وحركة الناس الذين وكلوا بنقلنا ..
رحلة البحر، كانت ذكرى من أفضل واسوأ الذكريات، وكشخص يعاني من دوار الحركة، فكنت أتخيل بأنني قد أقدمت على رحلة الموت، لكن وبفضل الله لم أشعر بشيء، ومن الحري بالذكر ما شعرنا به في اللحظات التي أصبحنا فيها بعرض البحر، حيث لم نعد نلمح أثرا لليابسة، ومع ارتفاع الأمواج، وهبوب الرياح كنا نحمل قبلنا بين كفينا، ومع هذا كان في داخلنا شعور أقوى بكثير من شعور الخوف، فقد كنا في مواجهة الموت وجها لوجه، باعتقاد أننا قطعنا النصف الصعب من الطريق ..
في نهاية الأمر خضنا تجربة الهجرة بامتياز، وخضنا معركة مع الصبر والوقت، واجهنا الموت بطعم جديد، وعشنا غربة مضاعفة غربة ارض وغربة مشاعر ..
وأخيرا أنا لا أدخل في تاريخ أجهل من نقله، ولا في حاضر لست أنا من يحضره، ولا في مستقبل لست أنا من صنعه، فأنا لا أنتمي إلى وطن ضائع كما نعته البعض، ولا أنوي أن أنتمي لوطن بديل كما فعل البعض، أنا أنتمي إلى موطن واحد .. ووطن واحد .. ورائحة تهز بي كل أركان الحياة عندما استنشقها .. رائحتك ..

ريم أتاسي10363717_955671124446587_2798765811057629988_n