سوف تنتهي الحرب وتعود تلك السمراء إلى بلادها

زيتون – وضحة عثمان
في زاويةٍ مهملة من إحدى حارات مدينة الريحانية التركية، حولت «زينب» الساحة الأمامية لبيتها الصغير إلى استراحة، تبيع الفطائر وسندويش الفلافل، لتعتاش وأولادها، بعدما فقدت زوجها، وتأخرت عودته، كما تقول، وهو واحد من مئات الآلاف من السوريين الذين غيبتهم معتقلات الأسد دون أي ذنب.


«زينب» التي تُكنى بـ «أم مصطفى» هربت مع أطفالها الثلاثة من درعا إلى تركيا، بعدما تقطعت بها سُبلُ الحياة، خصوصاً اثر استشهاد أبويها بقصف لطيران الأسد على بلدتها، ومع مرور الأيام لم يعُد بمقدور إخوتها الالتفات لحالها وحال أطفالها، لانشغالهم بعائلاتهم، حسبما تقول «زينب»، ثم وبتنهيدة ريفية «إخوتي لا يتذكروني إلا عندما يأتوا ليقولوا لي أنه من المعيب أن تعملي مع غرباء».

تقول «زينب»: أخذتُ قراري بالرحيل أمام ذلك الباب الذي أغلقته على ذكريات وقصص حفرت في قلبي، وأكثر ما أشتاق له صوت «أبو مصطفى»، بيتي في درعا تمتزج ممراته بخطواتنا الأولى، هنا رسوم على الجدران تحمل أحلام أطفالي وفرحي ولكن لم يكن أمامي سوى الرحيل.
«كنتُ أسير بسرعة لأصل إلى الطريق العام» والكلام لـ «زينب» التي رافقتها طوال طريقها من درعا إلى تركيا، فكرة أن يصفها محيطها بالعار، ثم ما تلبث أن تواسي نفسها بأن أطفالها برفقتها، و»لن أُفهم بطريقة سيئة».
تضيف «زينب»: «وصلت الحدود بعد رحلة طويلة مليئة بالخوف والقهر وأنا اقفز فوق السياج وأمسك بأطفالي، عدا عن الجوع الذي رافقنا طوال الطريق، لقد كنت أشعر أني تركت جزءًا من روحي، فهناك شريط ذكرياتي وخوفي من المجهول وحتى زوجي ماذا سيقول عندما يعود، هل سيبحث عني ويشكرني على تحمل تلك الأعباء؟ أو أنه سيعتبرني زوجة سيئة، أخيراً قطعت السياج إنهم معي وهؤلاء الأهم «مصطفى» و»أحمد» و»ريم» أغلى ما عندي في غربتي تلك».

دعينا نتحدث عن أولى محطاتك في تركيا..
قاسية جداً.. قضيتُ أسابيع وأنا خائفة على نفسي وأولادي أبحث في النهار عن سكن وفي الليل أنام في مسجد القرية، وأخيراً حصلت على (زريبة) في قطعة أرض مهملة، لكنني شعرت أني أمتلك قصراً المهم أن يكون هناك باب يُغلق على أطفالي وبدأت هنا حياة جديدة.

«كل ما ترونه هو نتيجة تعب وسهر أيام طويلة قضيتها بإصرار، وإرادة مملوءة بالحب لأطفالي، والآن راضية لما وصلت إليه» تقول «زينب» التي حولت المكان إلى جدران مطلية بألوان مختلفة واللون الأخضر يغطي المكان، وقطع الحطب أصبحت سياجاً، ورائحة الياسمين التي زرعتها في «حاكورة» الدار، اختلطت مع رائحة القهوة.

«زينب» التي تمشي بعنفوان، بجسد ممتلئ، وعيون فيها كل فرح العالم وحزنه معاً وإرادة تشع مع كل خطوة من ذلك الجسد الخمسيني سألتها:
كيف استطعت تحويل هذا المكان لمطعم، والانطلاق بتلك الجرأة؟
لقد حولت ذلك المستودع إلى منزل جميل، وقطعة الأرض الصغيرة إلى استراحة، وبدأت تجهيز الفطائر وبعض الطعام لكسب المال. واستطعت زرع البسمة والأمل في قلوب العشرات من الأطفال والشباب والنساء، الذين صاروا يترددون على المكان، الذي استأجرته من «أبو أحمد» للسكن والذي كان على شكل زريبة، وعندما عاد ليتفقد المكان بعد أسبوع من سكني فيه، أصابه الذهول! لقد تغيرت ملامح المكان لدرجة أنه ظن نفسه قد جاء إلى المكان الخطأ، تلكَ الأشياء المكسرة أصبحت صالحة للاستعمال، والمكان نظيف جداً، مزين بألوان جميلة، حولت قطع الخشب إلى مقاعد وطاولات، ويوجد زبائن يقومون بتناول الفطائر والفلافل الساخنة.

تضيف «زينب»: «بعدما شاهد كل ذلك التغير قرر أبو أحمد أن يعطيني باقي أرض المزرعة، وبعد أقل من ستة أشهر، حولت المكان إلى استراحة وصالة كبيرة وحولت قطع الخشب إلى مقاعد وطاولات، يتناول عليها الزبائن مأكولات من صنع يدي».
وفي حديث لـ «أبو أحمد» يقول: «كلما نظرتُ إليها، أخجل من نفسي، إنها امرأة بمائة رجل لم تقبل المساعدة من أحد، ولا أن تمد يدها لأحد، استطاعت العمل وتأمين متطلبات صغارها ومساعدة كل من يحتاج لها، لأنها أصبحت على علاقة طيبة مع جميع سكان تلك المدينة، وأصبحت المنطقة التي تسكن فيها تسمى باسمها، هكذا هنَ نساء سورية قادرات على خلق الحياة والأمل في كل زمان مهما كانت الصعوبات، نساء بنكهة الرجال».
ويختم بالقول: «سوف تنتهي الحرب وتعود تلك السمراء إلى بلادها، ولكن سوف نذكرها طويلاً، و نتمنى أن تكون بناتنا ونساؤنا مثل تلك المرأة».

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*