قصة نازح.. أبو علاء بائع الخبز والأمل

زيتون – رامي إبراهيم
ببحة صوته ولكنته الديرية، وبتلك الملامح السمراء التي تذكر بالفرات، يطالعك أبو علاء بائع الخبز في سوق جرابلس بابتسامته الطيبة والمرة، التي تشف بما مر به من وجع السنين الفائتة.

“محمد الشبلي” الملقب أبو علاء، واحد من نازحي مدينة الميادين بريف دير الزور، يبلغ من العمر 47 عاما، أب لأربع أبناء، عاش القصف الجوي على مدينته بكل أنواعه، وتنقل بين عدة أماكن هربا بأطفاله من الموت، حتى استقر به الحال في مدينة جرابلس في أقصى الشمال السوري.

يرتاح أبو علاء برواية عذاباته لمن يثق بهم، إذ يشعره البوح بتخفيف آلامه، ويدرك صاحب القامة القصيرة والشعر الأبيض، أن حكايته هي جزء من رواية الألم السوري الكبير.

في الميادين لم تكتمل فرحته بولادة زوجته لتؤأم (علاء وشذى)، إذ سرعان ما أخبره الطبيب أن أحد المولودين (علاء) مصاب بضمور دماغي، سببه تضاغط الجنينين داخل الرحم، ما تسبب في كسر عظام الرأس.

أجبر أبو علاء على رحلة العلاج الطويلة التي أجرى خلالها عدة عمليات جراحية لطفله، أنفق فيها كل مدخراته، كما لجأ إلى مصاغ زوجته لاستكمال العلاج، لكن كل هذا لم يمنع الموت عن طفله بعد عدة سنوات.

وبمحاولة منه للنهوض بحياة أسرته، استأجر أبوعلاء محلاَ لبيع الخضروات والمواد الغذائية، بادئا من الصفر، متابعا لمجريات الأحداث في بلده من بعيد، دون أن يشارك بأي عمل ثوري، رغم رغبته، بسبب انشغاله بعلاج طفله.

وككل أهالي الميادين عانى أبو علاء من سوء معاملة “داعش” بما فرضته من نظام غريب للحياة، وتحكمها بأصغر تفاصيل الحياة العامة والخاصة، وتدخلها باللباس والحريات الشخصية، لم ينجو منها أبو علاء وكان حظه سجن لمدة شهر كامل بتهمة بيع الدخان، ليفرج عنه بعد اكتشافهم أن هناك تشابه في الأسماء بينه وبين شخص أخر.

أبو علاء أب لأربعة أطفال قرر الخروج من ذلك الجحيم متوجها إلى الحسكة، آملا بحياة أمنة لأسرته، لكنه فوجئ بعجزه أمام تكاليف الحياة وارتفاع أسعار إيجارات المنازل وهو المعدم، ليعود إلى مدينته الميادين رغم اشتداد القصف عليها.

كان يمضي النهار مع أسرته خارج الميادين متجنبا القصف، يلوذ بأطراف المزارع القريبة مستعينا بأصدقائه ومعارفه هناك، ثم يعود إذا ما غابت الشمس، مع ما يحمله الليل من أمان أكثر وقصف أقل.

قلما تخلو سماء الميادين من الطيران الحربي، طيران من كل الجنسيات، الروسي هو الأبرز بينها، ثم طيران التحالف، وطيران النظام السوري، وكان الأهالي يدركون التواطؤ الضمني بين الطيران الروسي وتنظيم داعش، فقد بات مكشوفا أن الطيران لا يستهدف مقار التنظيم، ما دفع الأهالي للاقتراب قدر المستطاع من تلك المقار، أملا بالحماية من القصف.

في إحدى موجات تصعيد القصف الجوي عاد أبو علاء للنزوح مرة أخرى قاصداً المعبر المائي في بلدة القورية، لكن الطيران الروسي كان قد سبقه بقصف المعبر في ذلك اليوم، تسبب القصف بموت 300 مدني كانوا يحاولون النزوح مثله، وكان أبو علاء شاهدا على تلك المجزرة المروعة مع أطفاله، ما زاد من الرعب والخوف لدى أطفاله.

وبرحلة طويلة ومريرة أخرى استطاع أبو علاء دخول الأراضي العراقية متوغلا مسافة 150 كم، حتى وصل بلدة الرمانة، ليتوجه من هناك إلى مدينة عين العرب في الشمال السوري، سعيا منه للوصول إلى مدينة جرابلس حيث يعيش فيها أخويه وبعض أقاربه.

في تلك الرحلة اعترضته قوات الحماية الكردية، ليتم احتجازه في أحد المخيمات التابعة لها لمدة عشرة أيام، ليفرج عنهم بعد التحقيق ودفع رشوة قاربت 100 دولار أمريكي، وصل بعدها أبو علاء إلى أخوته، لكنه عاد ليعاني من ارتفاع إيجارات المنازل والتي تقارب 100 دولار، ما أجبره على الإقامة لدى أخوته قبل أن يتمكن من العثور على غرفة صغيرة مقابل مبلغ متواضع.

يعتب أبو علاء على الجميع، إذ لم يتلق أي مساعدة أو مراعاة لوضعه من قبل أحد، كما شعر باستغلال حاجته، والقسوة التي تملكت قلوب الكثيرين، لكنه بصبره وجلده صار ملاذ النازحين، يرشدهم بقلبه المتعاطف معهم، وبابتسامته الصادقة يتعاضد مع النازحين الجدد، يوجههم بنصائحه التي خبرها بتجربته إلى ما ينفعهم وما يوفر عليهم مبالغ طائلة، حتى بات مقصد لهم في كل صغيرة وكبيرة.

وكانت المنظمات التي تعنى بشؤون اللاجئين والنازحين ومنها منسقو استجابة سوريا قد وثقت نزوح أكثر من 163 ألف عائلة تضم أكثر من مليون مدني، بينهم أكثر من 119 ألف نازح يقيمون في العراء وتحت أشجار الزيتون، منذ تشرين الثاني 2019، وسط أوضاع مأساوية للغاية.

وعما تقدمه المؤسسات المحلية لمساعدة النازحين قال مسؤول مكتب المهجرين والإغاثة في المجلس المحلي لمدينة جرابلس “حسام الدادا” لزيتون: “إن عدد العائلات المهجرة التي وصلت إلى منطقة جرابلس بلغ حوالي 3 ألاف عائلة فقط في الفترة الأخيرة، باستثناء لمهجرين السابقين من أهالي دير الزور وقراها والميادين وحمص والغوطة”.

ويضيف “الدادا” إن هذا العدد يفوق قدرة استيعاب المدينة لهم من جميع الجهات سواء السكنية أو الخدمية أو الاغاثية، مشيراً أنه لا يستطيع كجهة رسمية أن يفرض على أصحاب المحلات والمنازل تخفيض إيجاراتهم.

هذا وتقدم منظمات الأمم المتحدة مساعدات تعترف بقصورها عن تلبية الحد الأدنى من مستلزمات السوريين لا سيما النازحين، ونظرا لاتساع الفجوة بين احتياجات السوريين والموارد المتاحة لدعمهم، ذكر منسق الشؤون الإنسانية الإقليمي في الأمم المتحدة للأزمة السورية “بانوس مومسيس”، أن ما تقدمه الأمم المتحدة من مساعدات يغطي المستوى الأدنى لتلك الاحتياجات، مشيرا إلى أن أكثر من 80% من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر، مع ارتفاع نسبة البطالة والدمار داخل سوريا.

“لا يمكن أن تجد أملا في العيش نازحاً، الأمل هناك في الديار” هذا ما يختم به أبو علاء متخوفا من مصير كمصير اللاجئين الفلسطينيين.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*