لأنسنة أرقامهم.. كتاب “حين تتحدث الزنازين” عن شهداء إدلب تحت التعذيب

زيتون 
تقول خالة الشهيد “محمد جمال أرسلان” وهي تحاول تمالك نفسها: “في القابون أخبروا ابنتي أن محمداً مات، وأن جثته في البراد بمشفى تشرين العسكري بدمشق، وأعطوها ورقة تحويل إلى المشفى للحصول على شهادة وفاة”.
خرجت ابنة خالة الشهيد محمد من مقر الشرطة العسكرية في القابون، وكان والده، ينتظر أن تخبره بما يبرِّد نار قلبه، كانت الورقة في يدها، والغصة واضحة في صوتها، إلا أنها لم تقوَ على إخباره بما عرفته، كما أنها لم تجرؤ على الذهاب إلى المشفى.
سألها زوج خالتها عن الورقة فأجابته بأنهم طلبوا إليها مراجعتهم بعد شهر.. خوفه من الورقة، وأمله بحياة ابنه منعاه من قراءتها، عادت ابنة خالة محمد إلى البلدة برفقة أبيه، وهناك أبلغت الجميع باستشهاد محمد، بحسب خالة الشهيد التي أضافت وهي تبكي:
“طوال مدة سجنه كانت عائلته تصارع لإنقاذه من براثن الموت، إلى أن كانت بداية العام 2015، حيث استقر به المطاف في براد مشفى تشرين العسكري، ولم تعد جثته، كما لم يقوَ أحد على الذهاب لإحضار شهادة وفاته”.
أجهشت خالة الشهيد “محمد جمال أرسلان” بالبكاء وهي تتساءل: “يا قلبي كم تحمّل من الوجع حتى مات بين أيديهم؟!”.

بهذا المقطع ينهي كتاب “حين تتحدث الزنازين” عن معتقلي إدلب قضوا تحت التعذيب قصصه.
ويتناول الكتاب حكاية 53 شهيدا على الأقل وذلك لاحتواء بعض القصص على أخوة وتوائم وأب وابنه، لم ينجوا من جرائم التعذيب في سجون النظام.
الكتاب الذي شارك في إعداده وتنفيذه كلا من جريدة زيتون ومركز البراءة للطفولة في سراقب في عمل مشترك بينهما، حاول تسليط الضوء على ما طرأ من تغييرات جذرية على الأسر السورية بعد فقد أفراد منها بطريقة بشعة، بعضهم تم نشر صوره بعد استشهاده من ضمن صور قيصر، والبعض الآخر تسلم ذويهم شهادات وفاتهم بعد مراجعة الشرطة العسكرية في دمشق أثناء بحثهم عن أبنائهم، في حين نقل قسم كبير من المفرج عنهم أخبار استشهاد زملائهم في السجن للأهالي.

وكان فريق التنفيذ قد وضع عدة معايير لاعتبار الشخص شهيدا تحت التعذيب، منها أن تكون عائلة الشهيد قد تسلمت شهادة للوفاة من النظام، أو أن شاهدا من المفرج عنهم كامل الأهلية قد نقل خبر استشهاده، أو ورود اسم الشهيد في قوائم النظام الأخيرة التي تسلمتها مدينة خان شيخون أو أن تكون صورته من ضمن صور قيصر.

وتأتي هذه المعايير بحسب فريق التنفيذ لاستبعاد أية شبهات حول استشهاد الشخص أو بقائه على قيد الحياة، رغم أن الكثير من العائلات ما زالت تنكر استشهاد أبنائها رغم توفر الوثائق المسبقة الذكر، تمسكا منهم بأمل عودة أبنائهم الذين لم يروا جثامينهم أو يحصلوا على جثثهم.
بضعة حالات لم تتجاوز الخمسة من أصل 53 حالة تم حصول الأهل على الجثث، وهو ما يبقي الأهل في حالة من العذاب والتشكيك في مصير أبنائهم رغم الوثائق، كما يثير القلق بشأن مجهولي المصير لعدد من المعتقلين.

كما حاول الكتاب أن يعيد للشهداء حياتهم قبل الاعتقال، ويرجع إليهم أحلامهم واهتماماتهم وسلوكهم مع عائلاتهم وأطفالهم، وذلك في استقصاء أقوال ذويهم وجيرانهم وأصدقائهم، وفي ضم صورهم القليلة المتبقية وصور متعلقاتهم وهواياتهم، والكتاب بذلك يحاول مسح الأرقام التي وضعها النظام في صور قيصر على جبين الشهداء، في محاولة منه لسلبهم بشريتهم وتحويلهم إلى أعداد ليس لها معنى كما يراهم.

ويشدد فريق التنفيذ على أن الكتاب هو خطوة متواضعة أولى نحو توثيق حياة الشهداء تحت التعذيب في كامل سوريا، على أمل أن يتم تنفيذ نصوص تحاكي قصص “حين تتحدث الزنازين” في باقي المحافظات لتضم جميع من استشهدوا في ظلمات السجون وتحت سياط التعذيب.

ولعل أبرز ما يقدمه الكتاب تلك النظرة الفوقية في تعاطي النظام مع المعتقلين من سوء معاملة وسخرية واستهتار بحياتهم وحياة ذويهم، يتجلى ذلك في مفردات السجانين وردود المسؤولين في الشرطة العسكرية على الأهالي الباحثين عن أبنائهم، أو بطريقة تعاملهم مع جثامين الشهداء.

تتكرر في الكتاب مفردات العذاب والحسرة والألم والبكاء، في حالة طبيعية لأهل الشهيد حين يسترجعون حكاية موت فقيدهم تعذيبا، كما تتكرر الكثير من الحالات المتشابهة في السؤال عما فعله الشهيد لكي يستحق مثل ذلك المصير، والحسرة على حرمانهم من قبر يمكنهم من زيارته والتخفيف عنهم.

ويصف فريق تنفيذ اللقاءات مع الأهالي أن المهمة لم تكن باليسيرة، إذ غرقوا في الحالة النفسية لأقارب الشهداء، لا سيما مع تكرار حالة الحزن والفقد والألم، كما واجهوا مخاوف البعض ورفضهم سرد قصص شهدائهم فيما تعيشه المحافظة من مخاوف اقتحام قوات النظام لها، كما عانوا من ندرة صور الشهداء بعد سنين من القصف والنزوح للعائلة، إلى صعوبة تذكر تواريخ الاعتقال والوفاة لدى بعض الأسر بدقة، أو معرفتهم باستشهاد أبنائهم بعد مدة طويلة، وصعوبة التنقل بين مدن وبلدات ريف إدلب وخطورتها.

الكتاب الذي تم تنفيذه بوقت قصير خلال شهر آب، من جمع المعلومات ولقاءات العائلات إلى طباعته، مكون من حوالي 150 صفحة، تمت طباعته في دار نون 4 للنشر والتوزيع في فرعها بغازي عينتاب في تركيا، بتمويل من منظمة fpu لدعم الشراكة بين المؤسسات الصحفية ومؤسسات المجتمع المدني.
مدير دار نون 4 “محمود وهب” أفاد أن الكتاب سيتم الانتهاء من طباعته في الثاني من أيلول القادم، وسيتم توزيعه مجاناً في محافظة إدلب، كما من الممكن أن يشارك في معرض للكتاب في اسطنبول في منتصف أيلول القادم.

تقول مقدمة الكتاب: “إن توثيق الشهداء الذين قضوا تحت التعذيب هدفه تخليد الذكرى ذات البعد المهم في وجدان أهالي المعتقلين، لشعورهم بحصول أبنائهم على حقوقهم، ومساعدتهم على تجاوز آلامهم والاستمرار في الحياة.
كما أن للتوثيق أهمية في محاسبة المجرمين مستقبلاً في حال الوصول إلى مرحلة العدالة الانتقالية، وهو ما يحققه الكتاب في توثيق الشهادات والشهود والتواريخ والأمكنة التي تمثل وثيقة تؤكدها أدلة ومعلومات مفيدة في محاكمة المجرمين”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*