ما الذي يعيق البدء بتطبيق مبادئ العدالة في سوريا.. وما هو مستقبلها؟

تتبع الانتهاكات والاستبداد مرحلة من الاستقرار والسلام. لابد فيها من إزالة أثار الحقبة السابقة، بإعادة الحقوق، والتعويض ومحاسبة مرتكبي الجرائم، ووضع نظم لضمان عدم تكرار الاستبداد والدكتاتوريات وإعادة المجرمين للمراكز الحكومية.

 عندما نقوم بذلك فإننا نرسي قيم العدالة الانتقالية. تتسم هذه العدالة بتغيير عميق في هيكلية السلطة القائمة التي استبدت وظلمت وسخرت مقدرات البلاد لخدمتها، وإبراز الجانب الأخلاقي للعدالة من خلال إرساء قواعد المصالحة، وهذا يتوقف على طبيعة المجتمع وطبيعة الدكتاتوريات التي حكمت في مرحلة الاستبداد.

 

الآليات المساعدة لتحقيق العدالة:

حتى تتحقق العدالة الانتقالية لا بد من تحقيق استقلال ونزاهة السلطة القضائية وانتخاب طبقة سياسية نزيهة قادرة ومتمكنة من تنفيذ آليات العدالة الانتقالية بشكل صحيح وشامل ويمكن الاعتماد على آليات قضائية وأخرى غير قضائية. أما القضائية تبدأ بمرحلة إصلاح القضاء والتغيير في هيكليته، والتأكد من استقلاليته ونزاهته، بعدها يتم إنشاء المحاكم وتحدد صلاحياتها ومهامها من خلال قانون خاص بهذه المرحلة، يراعي الظروف التي يمكن أن تساهم بنجاح العدالة. يمكن أن تحتاج هذه المرحلة للاستعانة بقوانين طبقت في دول أخرى تتشابه مع الوضع السوري، بالإضافة لتشكيل لجان تحقيق تتبع لهيئات قضائية، تحقق في مرتكبي الجرائم وتوثقها لإنشاء صورة كاملة لأسباب وطبيعة الانتهاكات التي قاموا بها هؤلاء.

أما عن الآليات غير القضائية فهي كثيرة، لكن أهمها تشكيل لجان تدقيق واحصاء، أهمها لجان الحقيقة التي تعمل على كشف الحقائق للأفراد والمجتمع ومعرفة مصير الضحايا والكشف عن شخصية مرتكبي الانتهاكات، تعمل لاستعادة الكرامة الإنسانية والحقوق المدنية واتخاذ تدابير لمنع الانتهاكات في المستقبل.

كما يمكن اللجوء للمشاورات الوطنية  بعد وضع استراتيجية واضحة للعدالة الانتقالية تراعي الظروف الخاصة لكل السوريين وتتفق مع المعايير الدولية بهذا الشأن وتراعي في مراحلها  الصلح  للوصول لآلية التعويضات وجبر الضرر لضحايا الجرائم التي ارتكبت بحق ملايين الأشخاص وضمان حق العودة إلى مكان الإقامة قبل النزاع والتكفل بالنفقات الطبية والرعاية الجسدية والنفسية والخدمات التعويض بالإضافة إلى التعويض المعنوي الذي يمكن أن يشمل الكشف العلني للحقيقة والاعتذار الرسمي، واحتفالات وتكريم الضحايا  واستعادة الأصول المنهوبة ومعاقبة الجناة عن طريق نزع أصولهم المكتسبة بطريقة غير مشروعة، والبحث عن الحقيقة من خلال معرفة ما حدث لتلك الأصول، ويشتمل على عنصر العدالة الكفيلة بجبر الضرر لأنه يمكن أن يؤدي إلى تمويل برامج جبر الضرر.

وخلال تطبيق هذه الآليات يمكن إصلاح المؤسسات، وإعادة هيكلة المؤسسات المتضررة، وهذا الإصلاح ضروري لتفادي وقوع انهيار حضاري أو ديمقراطي في المستقبل، وإيجاد منظومة إشراف لتعزيز النزاهة والرقابة العامة، والاهتمام بقوانين تكرس حماية حقوق الإنسان، ونزع سلاح المحاربين أصحاب النفوذ بالمؤسسات الأمنية، وأطلاق برامج التدريب للموظفين العامين حول معايير حقوق الإنسان القابلة للتطبيق.

يمكن أن يتم ذلك من تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في المرحلة السابقة للعدالة وأثناء تطبيقها، لأن منظمات المجتمع المدني هي من عاصر المراحل وجمع الكثير من التوثيقات التي يمكن الاعتماد عليها، وأصبح لديهم الخبرة الكافية لتمكين الضحايا ومساعدتهم لممارسة حقوقهم والمشاركة في تطوير القوانين والسياسات والبرامج.

ومن المؤسسات التي يجب أن يكون لها دور فاعل في تطبيق العدالة الانتقالية، هي وسائل الإعلام، فهي تساعد على نشر الوعي بين الأطراف جميعا وتخلق المناصرة لمرحلة العدالة وتعزز ثقافة حقوق الإنسان وتراقب الصراعات الاجتماعية البسيطة التي تعتبر نواة لعودة الصراعات والانتهاكات الكبيرة ويمكن تأسيس مراكز ومؤسسات تهتم بالدراسات المتخصصة وتساهم بنشر مشروع العدالة الانتقالية كأساس لتحقيق الديمقراطية، وتكون ملحقة بالمنظمات الإقليمية والدولية للمساعدة في نقل التجارب، إضافة لمساعدتها في استنساخ مشاريع سابقة، أو المساهمة بمشروع عابر للدول التي تمر بمرحلة العدالة الانتقالية؛ وذلـك لتشـابه الحالات والظروف والعمل على إيجاد بيئة تسهم في انتشار ظاهرة الدومينو للعدالة وهذا يمكن أن يكون ضمانة حقيقية لعدم التكرار والعودة لزمن الدكتاتوريات وسلب الحقوق.

 

ما الذي يعيق العدالة الانتقالية في سوريا:

تعاقب على السوريين فترات زمنية متلاحقة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والإخفاء القسري والاعتقال التعسفي وغياب دولة القانون وسيادة منظومة بوليسية حكمت سورية، خلق هذا عوامل كثيرة معيقة للتحول للعدالة الانتقالية في سوريا، وأهمها غياب التصور الشامل والمتكامل للعدالة الانتقالية. إضافة للتشتت في تنظيم العدالة وما تحتاجه من قوانين وقرارات وتغيير بالهياكل السياسية والوصول للمرحلة الانتقالية والتي يمكن أن تسمح باستبعاد السلطة المسيطرة حاليا والمرتبطة بالجرائم والفساد للوصول للجان تقصي الحقائق النزيهة التي يمكن أن تبدأ بوضع وصف تقني للجرائم المرتكبة وتحديد المجرمين لأنصاف المظلومين، هذا جزء من التحديدات يمكن أن يضاف له التأثيرات الخارجية وعدم وجود إرادة دولية صادقة للوصول للانتقال السياسي بسبب تضارب المصالح وتعددها من القضية السورية.

 طبعا إضافة لضخامة الانتهاكات من قبل السلطات السياسية الحاكمة وسيطرتها على جهاز الأمن والجيش وتسخيرها لتثبيت حكمها، وعدم الاتفاق على إن ما وقع هو جريمة،  فتقنيات التحقيق في جرائم السلطة ضد المعارضين، يختلف عن الجرائم العادية، فغياب هذا التقييم وعدم الاتفاق على معاييره معضلة كبيرة، نتج عن فساد المؤسسات القضائية الحالية، ما يسهل هروب المجرمين من العقاب، وممكن أن تتحول العدالة إلى آلية للانتقام الممنهج باسم القانون، وفرض عقوبات خارج نطاق القانون هذا ما قد يساعد على استمرار دوامة العنف ويزيد شرذمة المجتمع ولا يسمح بوجود رغبة في تحقق الهدوء والسلام، ومحاكمة منتهكي حقوق الإنسان.

من المعضلات الأخرى كذلك هي ضعف منظمات المجتمع المدني، بسبب حصر عمل المنظمات بالسلطات وحزب البعث سابقا بالإضافة لقلة خبرة المنظمات التي تشكلت بعد عام 2011 نتيجة القبضة الأمنية والحالة الحربية وخطورة العمل داخل سوريا وبالتالي كان دورها غائب في رفع الوعي والتأسيس للعدالة وحشد الناس والسياسيين لمناصرتها.

لتذليل هذه العقبات لابد من الوصول للفترة الانتقالية وإيقاف شامل للعنف للبدء بتنفيذ نهج شامل للعدالة الانتقالية عندما تتوفر شروطها، رغم أن كثير من المتابعين يحددون ثلاث سيناريوهات لمسار العدالة في سوريا من الممكن أن تحدث.

يتوقع البعض نجاح برامج السلم الأهلي وأنه يمكن تحقيق توافق على كل نقاط الخلاف ويمكن للقضاء العادي أن يعيد الحقوق بسهولة ويمكن إعادة هيكلة الجيش والأمن وأن النظام السياسي متجه للقبول بفترة انتقالية بعد حصوله على ضمانات محددة.

 السيناريو الثاني متشائم ويتوقع استمرار العنف لفترة تزيد عن 15 سنة أخرى وأنه لن تنجح كل الجهود في مجال المصالحة الوطنية وسيستمر الفساد في المؤسسات السيادية لفترة طويلة، لكن الواقع يقول إنه يمكن تحقيق الأمن والعدالة الانتقالية، لكن ذلك قد يستغرق وقتاً طويلا.

مهما كانت السيناريوهات لابد من السعي نحو تهيئة بيئة مناسبة أو محفزة للعدالة، والعمل على نشر ومناصرة بيئة ثقافية وفكرية وسياسية تساهم ببدء مرحلة العدالة الانتقالية والوصول لتوافق يضمن التوقف الشامل للعنف، والبدء بتطبيق مبادئ حقوق الانسان.

#ناصر_العدالة

المركز الصحفي السوري

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*