لوفيغارو: مقبرة السوريين في إزمير.. يتامى من غير أهل ولا أسماء

12974453_1068547443216275_8841708798502804905_n

ثلاثة أرقام على لوحات صخرية صغيرة، 42871، و42872، و42973، مزروعة في تربة صفراء اللون: لا يعرف أحد أسماء هذه العائلة من اللاجئين السوريين الذين أغرقهم الموج وابتلعهم. «كل ما أعرفه هو أنها مؤلفة من أم وأبنائها أولهما في سن الثامنة وثانيهما في الخامسة وثالثهما في الثانية»، يقول أحمد الطان، إمام مسجد تركي في الـ59 من العمر. وألطان مسؤول عن حيز الموتى «الغفل» أو المجهولين في مقبرة دوغان ساي، على هضاب إزمير، التي فتحت الأبواب قبل 6 أشهر لاستقبال جثامين اللاجئين الساعين إلى بلوغ اليونان. وانتشل حرس السواحل 410 قتلى، 130 منهم أطفال. ويسجّى مئات من الغرقى الآخرين في أعماق المياه في بحر إيجه، التابوت الكبير.
ويسعى الاتفاق التركي– الأوروبي إلى وقف موجات النزوح والهجرة إلى أوروبا، وإغلاق طرق التهريب التي سلكها 150 ألف شخص منذ مطلع 2016، وإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى تركيا. ولكن يبدو أن من العسير وقف عجلة الهجرة. «هؤلاء الناس فقدوا الأمل وهم يخاطرون بكل شيء من أجل مغادرة هذه الأصقاع»، يقول ألطان. وفي اليوم التالي للاتفاق الذي بدأ العمل به في 20 آذار (مارس) وصل إلى اليونان 1600 مهاجر لم يثنهم خطر الاعتقال ولا الغرق. وشهر «شباط (فبراير) كان كارثياً، ودفنا فيه 75 جثماناً»، يقول الإمام التركي وهو ينظر إلى البحر الذي يلتهم البشر.
والخطر لا يفارق المهاجرين في البحر والبر على حد سواء. فتجار فاسدون يراكمون الثروات على حساب اللاجئين. واليوم، يعرف شارع باسمان في ساحة فوزي – باشا بـ «سورية الصغيرة»، حيث تعمّ الواجهات سترات النجاة، وهي ضرورة لا غنى عن حيازتها قبل اجتياز البحر إلى أوروبا. والسترات من كل الألوان والأحجام، وتلك المخصصة للأطفال مزينة برسوم «بيضاء الثلج» و»هيلو كيتي» أو «سبايدرمون».
«حين يدخل الزبائن متجري، أرى القلق في وجوههم، خصوصاً النساء. فشراء السترة هو الخطوة الأولى على درب الموت المحتمل»، يقول قادر، صاحب متجر. فمعظم المهاجرين لا يجيد السباحة والخطر كبير. فشطر كبير من سترات النجاة لا يلتزم معايير السلامة الدولية، وهو يباع بنصف السعر. وبعض النماذج مصنع في معامل سرية ومحشو بإسفنج سيء النوع.
وتزدهر تجارة التهريب على رغم تضييق الشرطة على مافيا معبِّري البشر. عبدالله، ابن الثلاثة وعشرين سنة، وقع ضحية أحد المعبرين. فهو بلغ تركيا من دير الزور قبل 45 يوماً. وكان هذا الصياد الشاب يأمل ببلوغ أوروبا قبل إبرام اتفاق بروكسيل. «لكن المعبِّر أخذ كل ما أملك»، يقول عبدالله. واليوم، يعيش عبدالله المفلس في أحد الفنادق الصغيرة في غرفة يتقاسمها مع شقيقتيه الصغيرتين (7 سنوات وسنتان). ويهدده المالك باستدعاء الشرطة إذا لم يسدد بدل الغرفة. لكن الصياد الشاب يعول على تضامن السوريين معه، واستدانة ثمن عبور بحر إيجه (نحو 500 دولار للشخص). «لا مستقبل لي في تركيا، ولا في سورية… ففي دير الزور الحياة كانت جحيماً. وكنا نعيش في منطقة يسيطر عليها داعش. قال لي أهلي: ارحل مع أصغر شقيقتيك. فهما يافعتان وفي وسعهما بدء حياة جديدة في الخارج، على خلافنا نحن. وأنا أجيد السباحة. وهذا يطمئن الركاب، وسيساعدوني على دفع كلفة رحلتي. ولو بقينا في سورية لكنت ميتاً، أو شبه ميت، أي ملتحق بقوات داعش أو بالنظام. واليوم، لا أكترث إن غرقت وقضيت»، يقول عبدالله. ويقدم الطبيب الجراح التركي الذائع الصيت، جيم طرزي، خدماته من غير مقابل للاجئين السوريين، وهو على رأس جمعية اسمها «الجسر» بين الشعوب، ويعمل فيها أطباء ومحامون يسعون إلى إحقاق العدالة للموتى. «طلبت منا عائلة ملاحقة معبِّر أودى مركبه بحياة 8 من أفرادها، وسُجن هذا المعبر 3 أشهر احتياطاً، واليوم هو ملاحق أمام القضاء». هذا انتصار صغير، شأن الحكم، مطلع آذار، على معبِّريْن بالسجن أربعة أعوام للوقوف وراء غرق الطفل إيلان الكردي. «في الماضي، كنت أدافع عن حقوق الأحياء، واليوم أدافع عن حقوق الموتى… أمضي وقتي بين المستشفى وثلاجة الموتى حيث أساعد العائلات على التعرف إلى الجثامين»، تقول المحامية إيدا بيكشي. وتحتفظ الثلاجة بالجثامين الغفل 15 يوماً، ثم إذا لم يسأل عنها أحد، يحفظ حمضها النووي، وتوارى في الثرى في حيز المقبرة المسمى مقبرة «الشهداء» الغفل. «هؤلاء الموتى هم مثل الأيتام من غير سند ولا معين غير البارئ. لذا، أقيم عليهم الصلاة وأتلو آيات الرحمة عليهم. والأكثر عسراً هو دفن الأطفال، وأعدادهم كبيرة. فأتساءل، ماذا فعلوا ليلقوا مثل هذا المصير».
تسللت دمعة إلى خده الأيسر، فمسحها أحمد ألطان بكمه، واستجمع نفسه وقال: «الحقيني سأريك شيئاً… يشير إلى قبر رقمه 42452. وعلى خلاف القبور الأخرى، اسم الميت محفور فوق الرقم: ميساء نور الدين، ولدت في 1975 في السويداء وتوفيت في 16/1/2016 والدها أتى يبحث عنها، وقارنا حمضه النووي بحمض الجثمان. وثبت أنه يعود إلى ابنته، فوسعنا معرفة مَنْ كانت». عائلتها لم تغادر إزمير، ولم تسترجع الجثة. فهي تأمل بالعودة إلى بلادها لدى انتهاء الحرب. وشأن ميساء، اتصل أهالي أفغانيين فقدا بين تركيا وأوروبا بالسفارة التركية في كابول، وفحوص الحمض النووي أثبتت أن الجثتين تعود إليهما، فأعيدتا إلى مسقط الرأس. وفي جيبه يحفظ الإمام ألطان بلائحة عليها أرقام: «إنها لائحة الموتى المجهولين. وآمل ذات يوم، بأن تحل الأسماء محل الأرقام».

المصدر : مركز الشرق العربي