إلى متى..؟

12196080_1518270771828882_7681883122184637278_n

زيتون – غادة باكير

– إلى متى؟
– لا أعلم.
هكذا أنهت حوارها مع جدران منزلها وهي تغادره, تاركةً خلفها ذكريات الطفولة والصبا، وبقايا صورهم المعلقة على الجدران, أغلقت الباب هابطةً على الدرج تتبعها رائحة المنزل وكأنها وشم على الروح.
توقفت قليلاً أمام باب البناية, وألقت نظرةً أخيرةً ملونةً بالدموع التي تأبى مغادرة العيون، ثم تلفتت يمنةً ويسرةً, الصمت يخيم على شوارع كانت دائماً تعج بالمارة والسيارات، أما الأن فهي تسأل نفسها أين اختفى الجميع؟
مشت بهدوء على الرصيف تتنفس بعمق، وكأنها تحفر رائحة الشوارع في ذاكرتها, لقد أقسمت سابقا ألا تغادر مدينتها مهما حدث، وكلما غاب صديق زاد إصرارها على البقاء ومواصلة الطريق, فلماذا ضعفت الان؟
سمعت صوت سيارة خلفها, فبدأت دقات قلبها تتسارع رغم محاولتها الحفاظ على هدوئها, ابتعدت السيارة في شارع جانبي, أسرعت الخطى للابتعاد عن المكان، تنتقل من شارع فرعي لأخر, لتفاجئ أثناء عبورها بحاجز جديد، لم يكن سابقاً, هاهي الأن غير قادرة على متابعة المسير أو التراجع، داهمها الارتباك والخوف, إلى أن انتشلها صوت يصرخ: تقدمي بسرعة.
لم يعد هناك مفر من متابعة الطريق، ولكن عليها أن تحافظ على هدوء روحها وعدم اشعارهم بقلقها.
بادرها أحدهم: «الهوية».
أخرجت لهم هويتها, ليغيب أحدهم فترةً وجيزةً ثم يعود قائلاً: «تفضلي معنا».
خذلها قلبها الذي كاد أن يتوقف, كرهته لضعفه, لكنها تظاهرت بعدم الخوف قائلة: «ماذا هناك» ؟
– «اصعدي للسيارة وبدون كلام».. قال أحدهم، وهو يدفعها صوب السيارة، ويضع العصابة السوداء على عينيها قائلاً: «خربتم البلد يا أولاد العاهرة».
أٌلقيت بالسيارة التي اتجهت بها إلى مكان ما, وأثناء تواجدها داخل السيارة كانت تسعى لترتيب أفكارها, ومحاولةً رسم الطريق الذي تسلكه السيارة، لعلها تعرف إلى أي مكان ستساق اليه.
بعد فترة شعرت بأنها شهور, توقفت السيارة، وجرها أحدهم بعنف وهو يشتمها، ثم دخلت وهي ماتزال معصوبة العينين ومكبلة اليدين ورميت على الأرض، قالت تحادث نفسها:
إياك والخوف أو الجبن، تذكري أن قضية شعبك وحريته تستحق الموت لإجلها، فلا تضعفي أو تهادني و…
قاطع أفكارها صوت المفتاح في القفل, وصوتاً يناديها بصراخٍ مرعب، جاراً يدها بعد أن ركلها بقدميه: «انهضي يا ساقطة».
معصوبة العينين ومكبلة اليدين، سحبها لغرفةٍ مجاورةٍ لتقف دون أن تدرك ما يحيط حولها, فالصمت المخيم على هذا المكان مخيف، هل من أحد معي في الغرفة؟ هل هناك من يراقبني الأن؟
ثم جاء الصوت الهازئ: أهلاً وسهلاً نورت المكان يا سيدة الحرية، هل ظننت أن اسمك المستعار سيحميك طويلاً يا أمل؟ يا بهيمة, هل تظنون أنفسكم أذكى منا, وتلقت صفعة قوية على وجهها أسقطتها أرضاً, قالت:
– أنا لا أعلم عما تتحدث من هي سيدة الحرية؟
– هل تسخرين مني يا فاجرة؟
وبدأت الركلات تأتيها من كل جهة, والصوت يستمر في مخاطبتها:
«الأفضل لك أن تعترفي نحن نعرف أنك اشتركت في المظاهرات, وهيئأت اللافتات, أم تعتقدين أننا أغبياء؟ أنصحك بالاعتراف لأني أعدك أنك ستنسين اسمك هنا، خذوها ولا تبخلوا عليها بالضيافة الكريمة فنحن كرماء وهم يستحقون»
وهنا سحبها اثنان من تحت إبطيها إلى غرفة أخرى، وبدأت تسمع صوت الصراخ المرعب الذي يملئ المكان، وأنين ينطلق من جثث حية, يتخلله نباح بشري يزيد من وحشية المشهد.
السياط تنهال عليها مع الشتائم والمسبات, وقد عاهدت نفسها ألا تصرخ أو تظهر ضعفاً, ولم تعد تدرك كم مر عليها من الزمن وهي تتنقل من لوحة تعذيب إلى أخرى, والدماء تنز من كل مكان في جسدها, غابت عن وعيها, ولم تعد تشعر بشيء إلى أن حاولت فتح عينيها المتورمتين، ولكن دون جدوى.
يد ما تمسح وجهها بقطعة مبللة بالماء, سرت داخلها حالة من الاطمئنان والارتياح, رغم كل الألم، فجاءها الصوت: «الحمدلله على سلامتك».
إنه صوت متعب, لكنه هادئ ومريح, عليك تناول القليل من الطعام، فأنت لم تتذوقيه منذ أيام, ولكن بدل الطعام, عادت كلابهم لتنهش جسدها مرة أخرى بالسياط والكهرباء والشتائم.
لم تعد تذكر كم مر عليها الأن، حفرت كل ما تذكره على جدران زنزانتها.. أن إسمها أمل, وقد أعتقلت على الحاجز, ودخلت إلى هذا القبر المفتوح على شتى أنواع الموت, دخلته في يوم الجمعة 3/12/2013 صباحاً, ولكن منذ لحظة وصولها إلى هذا المكان، اختلط الزمان ببعضه, فلم تعد تعرف متى يبدأ النهار ومتى ينتهي؟
لقد مرت سنوات طويلة عليها ومازالت تتساءل إلى متى يستمر هذا الظلم؟ وبالرغم من كل جهد جلاديها للنيل من حلمها وثقتها بما خرجت لإجله, إلا أنهم عجزوا عن ذلك.
مازالت ترسم على جدران زنزانتها عرائش الياسمين والبحر، وتشعر بنسيم الموج، وتخاطب كل وجوه الأحبة في الخارج، بأنها عائدة إليهم لتحقيق حلمهم.
ولكن متى ؟.