نوروز عراقة وتجدّد

maxresdefault

عرائس النار، جنيّات تتراقص في أعالي التلال على إيقاع أخضر ثنائي بسيط تنقره الطبيعة مشهرةً ولادة ربيع جديد، تبتهج العرائس بحلول المساء تحاول الانتصاب، لكنّ حليفتها الريح تحتضنها فتطاوعها وتنثني معها حيث تشاء، هي في الأمام ماثلة، وعلى اليسار  واليمين من الطريق، قريبة بعيدة، تلالٌ وليلٌ، ونارٌ تسرق عناء الطريق الطويل ما بين حلب وقامشلو  وتسحب وحشته فأنت في حضرة عرس كونيّ تعلنه الطبيعة في (نيو.. روز) اليوم الجديد، هو الواحد والعشرون من مارس آذار أوّل التقويم الشرقيّ، حيث تعلن الأرض ولادة أخضر ربيعي آخر وجديد لم يبدِ أيّ منّا امتعاضه من الاستيقاظ بالرغم من عدد الساعات القليلة التي غفا فيها، كلّ ما يلزمنا في رحلتنا محضّر سلفاً، ولا يهمّ أن تركب أيّ سيارة متوجّهة إلى المكان حتّى ولو بالصندوق فللطريق متعته وأنت تراقب رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً ومن مختلف الفئات العمريّة في آلياتهم ومشياً على الأقدام.

 الكلّ متجه إلى المكان الذي حُدّد مسبقاً، ليكون مسرحاً طبيعيّاً يحتضن الاحتفال والأصحّ الاحتفالات، فكلّ جمهرة تأخذ مكانها حيث تشاء، تتداخل الألوان الفاقعة على الثياب التي يرتديها الجميع رجالاً ونساء وانعكاس لمعانِ القصب على الثياب والشالات تحت أشعة الشمس يضفي على المكان سحرا آخر،إنّه الزيّ الشعبيّ لسكّان المنطقة الذي يرغمك أن تعود بالذاكرة إلى الوراء، وكم كان الفرح متوغّلاً في ربوع هذه المنطقة وكم ترتفع درجة حرارته بقدوم ربيع جديد.

 الجميلات بأثوابهنّ المزركشة وكأن الأرض التي بدأت تُخرج أخضرها باسترخاء قد تفتّقت للتوّ لتنبت هذه الجميلات كالأزاهير  زاهية بكلّ الألوان، هنا حلقة عقدت للرقص ترسم الفرح والمعاناة ابتداءً من الفلاحة بالمحراث البدائيّ مروراً بالبذار والحصاد وجني المحصول واكتمال الفرحة بزفاف هذا المتّيم على متيّمته.

 حلقة أخرى في هذه الركن لما يُعرف بدبكة (اليساريّة) والتي يتمايل فيها الراقصون على إيقاعات بسيطة نحو اليسار جهة القلب، ومرّة أخرى طبل ومزمار  وسط نصف دائرة من الدبيكة، وعلى رأسها ما يقال له (دبيك) الأوّل وهو يلوّح بمنديله الأحمر الجميل الزاهي، وهذا مغنّي شابَ رأسه من عاديات الزمن وما زال يغازل أوتار بزقه الضارب عمقاً في التاريخ، ويتغنّى بملاحم أبطالها بسطاءَ شعبيّين قدّموا الكثير للأحفاد، ويصدح يافعٌ بأسطورة تحكي قصّة الربيع والحبّ المتجدّد على هذه الأرض، رجال ونساء يد بيد وكتف على كتف يوقّعون على الأرض بأرجلهم علّها تستيقظ قبل الأوان وتجودَ بما عندها، ينتصف النهار وتشتدّ حرارة شمسه قليلاً، وبسبب العناء من الدبك والرقص تتلألأ قطرات العرق ساحبةً معها بعض نثار القصب من الشالات لتثبت على الوجنة البيضاء رافضةً المغادرة لتجعل من البعض آلاء في الجمال، وبانتظار أن يُعدّ الطعام أتوقّف عند بائع على عربته لأطلب كوباً من العصير المثلّج أطفئ به عطشي بعد أن أطفأت عطش الروح بما عبّته من فرح  يسيل من كل أرجاء المكان،  بعد قليل من الهدوء يعود صخب الفرح من جديد، فاليوم رقص وموسيقى وغناء وغدا أمر.

هنا تسمع أغاني الرعاة والتي هي أعرق وأقدم أنواع الغناء، تلخّص عذابات الإنسان في غابته قبل أن يستوطن ويفلح ويزرع،أكثر من ثلاثين دبكة ابتدعها هذا الشعب المكلوم ولم ينسَ حسناواته فهنالك دبكتان للفتيات البكر.

كل ألوان الفرح حاضرة هنا اليوم، كلّ ما يعبّر عن الوجدان والمشاعر، وكون المكان واسع ومفتوح على مدى لا متناهٍ يجعلك تشعر بأنك جزءٌ من هذه الطبيعة، وتتوحّد مع مكوّناتها.

 لا خصوصية هنا فحلقات الدبكة والرقص مفتوحة لمن شاء، ما تعب البشر من الفرح، فالفرح مخدرٌ للتعب، لكنّ الوداع والتجدّد سنّة الكون،فوجه الشمس بدأ يحمرّ خجلاً وأسىً، وينسحب على استحياء مودّعاً النهار والمكان، ويلوّح مودعا الفرح على أمل العودة إن طالت أو قصُرت.

 على طريق العودة يراودك إحساس بأنّ هذا الطريق عمره من عمر هذه الأرض، وتعود بك الذاكرة إلى ممالك كان هذا طريقها، وتحضرك أسطورة الحداد (كاوى) وكيف قتل الطاغية(الضحاك) الذي كان يقتل كلّ يوم طفلاً كرديّاً ليأكل مخّه في محاولة لمنع تجدّد الحياة التي تُعلن اليوم، وكلّ يوم حقيقة ثابتة وهي أنّ الولادة والتجديد سنة كونيّة وليس لها تبديلا.

أسعد شلاش