أشرطة للمجازر والزمن

900x450_uploads,2016,08,13,05d2e7821c

زيتون – بشار فستق 

بأغنية قصيرة أرسل الثنائيّ، أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، صرخة نداء باسم الإنسانيّة:
«يا حكاية كلّ الناس
من قلب الناس للناس
تصحى على لسان الناس
وتبات في ضمير الناس
يا أطهر جرح
وأشرف جرح
وأوجع جرح ف قلب الناس يا تلّ الزعتر، الزعتر».
تداول الناس شريط هذه الأغنية (الكاسيت) خفية، فقد سقط مخيّم تلّ الزعتر في 14/8/1976، ودخلته الكتائب اللبنانيّة، تحت غطاء حليفها الجيش السوريّ. وارتكبت فيه أفظع الجرائم من هتك للأعراض، وبقر لبطون الحوامل، وذبح للأطفال والنساء والشيوخ، و..
الشاعر مظّفرالنوّاب، أدّى قصيدته «تلّ الزعتر – بنت الصبح» بصوته، وانتشر الشريط، خفية كذلك، وردّد الناس كلماتها فيما بينهم:
«تضيء محاجر جمجمة تلعب فيها الريح بتلّ الزعتر»
وخاصّة عندما سمّى القاتل ووصفه بـ:
«ديّوث الشام وهدهده»
فقد ردّدها الناس وتساءلوا، واختلف البعض منهم، عمّن قصد النّواب بالهدد، أهو عبد الحليم خدّام أم رفعت الأسد؟ لكنّهم اتّفقوا على أنّ الديّوث هو حافظ.
وبرقّة تناقض المجزرة تساءل الشاعر النوّاب:
«ما ثمن الغمّازة؟
ما ثمن العينين الضاحكتين صباحاً؟
ما ثمن الشفتين مناغاة وحليباً؟»
كما صوّر الحدث، ووضع صفات لكلّ المسؤولين والمشاركين في المجزرة منذ البداية:
«قوّات الردع لقد وصلت
خصيان الأمّة رغم خلاف الأفكار اتصلت
سلطات قردة
أحزاب قردة
أجهزة قردة»
وغالباً ما كان يصف البعثيّين بالخصيان والمخصيّين.
وجاءت قصيدة الشاعر محمود درويش عن نفس المجزرة كنشيد، عنونه بـ «أحمد العربيّ» وشاع مطلعه:
«ليدين من حجر وزعتر، هذا النشيد»
كعمل إبداعيّ سياسيّ، يربط المجزرة بتاريخ قضيّة القمع والهزائم، إذ قال:
«عشرين عاماً كان يسأل
عشرين عاماً كان يرحل»
مشيراً إلى الفارق الزمنيّ بين نكبة 1948ومجزرة مخيّم تلّ الزعتر والاستمرار في الانكسار. واتّهم درويش كلّ الأنظمة العربيّة:
«ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط
كانوا يعدّون الجنازة
وانتخاب المقصلة»
ثمّ يحدّد على الترتيب:
«وأعدّ أضلاعي
فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحث عن حدود أصابعي
فأرى العواصم كلّها زبدا…»
بالإضافة إلى تسجيلٍ لإلقاء درويش للقصيدة، قام مارسيل خليفة بتقديم عمل موسيقيّ باسم أحمد الزعتر، على شكل قطعة موسيقيّة كخلفيّة للقصيدة، إذ يمكن اعتبارها حالة تجريبيّة في سبيل البحث عن موسيقى جديدة، ضمن مشروع خليفة الموسيقيّ، وليست أغنية تقليديّة. فقد انتقى خليفة المقاطع الأكثر رمزيّة من القصيدة، وابتعد عمّا يسمّي الأشياء بأسمائها، وألقاها على خلفيّة موسيقيّة، ولحّن جزءاً صغيراً، ترك للكورس أداءه، كلّ ذلك في إطار أسلوب حماسيّ للأوركسترا. سُمع العمل في الأوساط المثقّفة، وانتشر كموسيقى بحتة، واستُخدم كخلفيّة لقصائد أخرى لدرويش نفسه، باعتبار خليفة شبه متخصّص في تلحين قصائد لشاعر فلسطين عموماً.
ظهر أخيراً، فيلم وثائقيّ بعنوان «تل الزعتر» لمخرجين ثلاثة هم: مصطفى أبو علي، وبينو أدريانو وجان شمعون، وقد بقيت المشاهد الوثائقيّة الفلميّة في مستودعات الشركة الإيطاليّة المنتجة منذ عام 1980، حتّى قامت المخرجتان الفلسطينيّة إميلي جاسر والإيطاليّة مونيكا ماورير، بترميم الموادّ الفيلميّةالتي كانت أوّل إنتاج إيطاليّ – فلسطينيّ مشترك.
يسعى شريط الفيلم (ساعة وربع الساعة بالأبيض والأسود) الذي كتب نصّه بالعربيّة الروائيّ رسمي أبو علي، لعرض خلفيّات حصار المخيّم والهجوم عليه وارتكاب المجزرة، عبر شهادات عن الحصار المطبّق من جميع الجهات المحيطة، للتجويع بمنع الغذاء الأدوية من الدخول إلى المخيّم، وكيف قاد النظام السوريّ الحصار، ودعم الميليشيات (كتائب، قوّات الأرز، حزب الأحرار) لتشديد الحصار، وقصف جيش النظام نحو ثمانية آلاف قذيفة في اليوم الأوّل فقط، و قطع الكهرباء والاتصالات ونشر القنّاصين في المحيط.
وأظهرت شهادات وردت في الفيلم أنّ سكّان المخيّم، أهملوا مصالحهم الخاصّة، عاشوا مع بعضهم كالملائكة، وبتضامن حقيقيّ فيما بينهم.

من نافل القول إنّ قيمة الشريط لا تأتي من التقنيّة السنمائيّة، بل من توثيقه بالصوت والصورة لشهادات حول مجزرة راح ضحيّتها ثلاثة آلاف إنسان محاصر جائع، وماذا فعل جيش النظام السوريّ من اعتداءات وإعدامات، وفي المقابل دور المرأة في الصمود، بعد تلقّيها دورات في الإسعاف وتطعيم الأطفال باللقاحات ضدّ الشلل، وتأسيس عشر نقاط لإسعاف الجرحى والمصابين تولّاها التنظيم النسائيّ لعدم وجود أطبّاء جرّاحين أو اختصاصيّين.
في الذكرى الأربعين للمجزرة، كم يذكّرنا النظام بنفسه عبر هذا الشريط! يوم بدأ تحويل ذاك الجيش إلى قاتل للشعوب، بمساعدة الميليشيات، ومن مجزرة مخيّم تلّ الزعتر، مروراً بمئات المجازر، إلى اللحظة الراهنة.
لننصت إلى قول درويش:
«يا أيّها المتفرّجون! تناثروا في الصمت
وابتعدوا قليلاً عنه كي تجدوه فيكم
حنطة، ويدين عاريتين».

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*