التطعيم بخيال الظلّ

05798-MED

هل يمكن إحياء «بابات»* خيال الظلّ كفرجة مسرحيّة، لتؤدّي دورها في الفنّ بما هو تكثيف وانتقاء من واقع الحياة، أو ما يمكن أن يوصلنا إلى تعميمات فلسفيّة نحتاجها في بحثنا عن الجوهريّ، بينما نحن في عصر العروض على شاشات ثلاثيّة الأبعاد أو منحنية أو عملاقة أو..؟
التسلية في أيّ عرض مسرحيّ شرط أوّليّ ثابت، يمكن أن تليه الفائدة، التي قد نختلف في تعريفها، أو أن نصل لنفيها باعتبار مقولة: الفنّ للفنّ. المتعة اصطلاح متداول يشمل التسلية والكشف، إذ أنّ الأخير هو معرفة تبدأ من إحساس المتفرّج الذي يوصله إلى الفهم؛ فأن نفهم الفنّ يعني أن نحسّ به. وهكذا يمكن أن يهتف أحدنا عندها: ها.. الآن فهمت!
في خيال الظلّ، فرجة على دمى بطول لا يتجاوز الخمسين سنتمتراً مصنوعة من الجلد ملوّنة تلتصق بشاشة بيضاء، يأتيها ضوء من خلفها لتصبح مرئيّة، يحرّكها «المخايلي»** ليُسلّي جمهوره في «بابة» من «بابات» انتشرت منذ العصر العبّاسيّ في الأماكن العامّة كالمقاهي، وحتّى في الحفلات الخاصّة كالأعراس والختان، وليُدلي «المخايلي» من أحفاد «ابن دانيل»*** بدلوه حتّى في السياسة على طريقته الشعبيّة الفظّة الألفاظ، والساخرة الفكهة.
أبطاله شخصيّات منها «قره كوز» (العين السوداء) وهو أمّيّ يحرّف الألفاظ لضحالة معرفته ممّا يثير الضحك، فضوليّ، نادراً ما يعمل فهو عطّال بطّال عيّار، لكنّه موهوب في الفرار من رجال السلطة. كيف لك ألّا تحبّ هذا النموذج؟!
أمّا نقيضه «عِواظ» فهو متعلّم، يلمّ بالحساب والتجارة واللغة والأدب، وصوليّ، نهّاز للفرص، مصلحيّ، يجامل ذوي النفوذ والسلطان ولا يعاديهم، يتصرّف «كما يجب» و «حسب الظرف»، لا مبادئ لديه. كيف لك ألّا تبالي بهكذا نماذج وخاصّة فيما يُنتجان عبر مسألة تناقضها؟!
في «بابة» بعنوان «الطيران» يشكو «قره كوز» فَقره لـ «عواظ» ويحكي كيف دفعته البطالة إلى التشرّد فصادف رجلاً يدخّن، شاركه التدخين فهبّت عاصفة قويّة قذفت به إلى الحقول! ينجذب «عواظ» مأخوذاً بالمغامرة، ويتابع «قره كوز» ما حدث له، إذ سقط في بئر لكنّه تعلّق بشجرة داخل البئر، ثمّ وجد في الدلو منقذاً له ليخرج مع ماء الريّ ليسقي الملفوف المزروع في الحقل!! ويأتي البستانيّ فلا يستطيع صاحبنا الفرار منه، ويحار «عواظ» في التفكير بطريق للنجاة، لكنّ «قره كوز» يجد في الاختباء بين أوراق رأس الملفوف حلّاً، لكنّه يُنقل معه إلى بائع الخضار ثمّ يُباع إلى من يرميه في قدْر ماء يغلي!! هنا يحزن «عواظ» على هذا المصير التعس، لكنّ «قره كوز» يذكّر مستمعه بالرجل الذي كان يدخّن ليكشف له أن الدخان ما كان إلّا حشيشاً، وأنّ الماء المغليّ في آخر حدث، ما هو حقيقة إلّا بول حصان أجرب نزل على وجهه بينما هو منطرح أرضاً بعد أن أخذ منه الحشيش صوابه، وهنا يصفع «عواظ» على قفاه ليسخر منه ويسأله: كيف يمكن أن تصدّق أنّ رجلاً يجلس في دلو ماء؟! أو يختبئ بين أوراق رأس ملفوف؟!.
تضعنا هذه الـ «بابة» أمام أسئلة محيّرة حول روعة هذا الخيال الشعبيّ المجنّح، فهذا «الطيران» يقدّم للجمهور التسلية والمتعة وهو يكشف آليّة التخييل، وكيفيّة ربط الأجزاء «الواقعيّة» في السرد بالأجزاء المُتخيّلة، واكتشاف المحاكمة العقليّة؛ تطرح بابة «الطيران» مستويّات مختلفة من الفهم عن ماهيّة المعرفة من حيث هي خبرة وليست معلومات جامدة.
«بابات» خيال الظلّ يمكن أن تُحيي العرض المسرحيّ، كما يتمّ تطعيم غصن شجرة من غيرها، على الأقلّ.
هوامش:
*مفردها «بابة» وهي الحكاية التمثيليّة الحواريّة في خيال الظلّ.
** فنّان، يؤلّف العرض ويخرجه ويؤدّي أصوات الشخصيّات ويحرّك الدمى بعصاه.
***ابن دانيال (1249 – 1311) ميلاديّ، أشهر «مخايليّ» كتب «البابات» وطوّر خيال الظلّ، فرّ من المغول شابّاً (تسعة عشر عاماً) تاركاً الموصل إلى القاهرة.

بشار فستق