مفردة “أمن”

2014-01-21-design

هي مفردة لغوية تنتمي إلى مفاهيم لها من الثوابت الشعورية والانفعالية الكثير, ومن المفترض أنها تمنح في لفظها الاسترخاء النفسي والعقلي للإنسان, فالفعل منها: أَمَنَ الرَّجُلُ: وَثِقَ بِهِ، اِطْمَأَنَّ إِلَيْهِ.
غير أنها كمفردة ارتبطت في معجم الحياة السورية بدلالات تتبدى بمعاني الرعب, والخوف, بل الهلع في أقصاه إلى حد بلغ, حين سؤال إحداهن عن تجليات شعورها منسماع هذه الكلمة, بأن يكون الجواب «هيالمفردة الوحيدة التي إذا استيقظت على وقع حروفها قد أدخل في غيبوبة, أما ارتفاع الأدرينالين فحدث ولا حرج».
وتكمن المفارقة بأن هذه المفردة «الأمن» بات يستخدمها السوري في السنوات الأخيرة عوضاً عن مفردة المخابرات, أو تعبيراً عن عناصر أفرعة المخابرات التي أصبحت توسم بالأمنية, وكأنهم مصدر الأمن والثقة والاطمئنان.
في حيز موضوعنا هذا كان قد حدث في الثمانينات أن شاعت قصة واقعية, وتم إدراج وقائعها في رواية مديح الكراهية لخالد خليفة, عن شاب كان يهرب من ملاحقة الأمن له, فرمى نفسه في بيت النار بإحدى الأفران, ليتحول إلى رماد قبل أن يتمكن الأمن من القبض عليه, وبالرغم من أنها قصة واقعية غير أنها لم تكن متداولة في مجتمع اعتاد أن يكفن همسات تلك الحكايات بعبارة « للجدران آذان», ولم تصل إلى الجيل الجديد, الذي لم يخبر مشاعر الخوف من عناصر الأمن, فكانت تلك الحكاية بالنسبة له وكأنها خيال روائي محض, أو ربما ظن البعض أن هذا الشاب ارتكب ما يدينه ولديه ما يخفيه ويدفعه إلى الموت حرقاً بدل أن يقبض عليه الأمن, غير أنك اليوم حين تسمع حكاية أحدهم الذي رمى بنفسه من الطابق الثالث حين داهم الأمن بيته, فلن تصاب بالاستغراب والدهشة, وستدرك أن ما جرى في الثمانيات, ذلك الرعب المتجلي بمفردة الأمن, أمراً واقعياً. فحين يحل الأمن يغدو الموت من أهون الأمور.
وبإمكانك اليوم أن تتلمس رعب السوريين من الأمن وما يتفرع عنه من مداهمات ليلية وعمليات تفتيش دائمة على الحواجز وفي الأزقة والشوارع واعتقالات عشوائية, فالداخل إلى أفرعتهم مفقود والخارج, على قلته, مولود.
وقد يتبادر إلى ذهنك بأن الخوف من الموت بأدوات الحرب وأسلحتها الدمارية, أكبر من الخوف من الأمن لدى السوري, غير أنك في نظرة خاطفة لمجريات الحياة في الشوارع السورية بمجملها ستجد أن الناس قد طوعت مفهوم الموت لصالح الحياة, وتأقلمت معه, وربما أصبح أمراً يحقق الخلاص لبعضهم. وحتى ولو كنت في موقفك تميل إلى حيادية الرأي وتنأى بنفسك عن التعبير والاعتراض والاحتجاج, يبقى شعور التهديد الناتج من الأمن واعتقالاته مهيمناً برعبه على قلبك, وتبقى مقولة السوري «أم القتيل تنام وأم المهدد لاتنام» أدق توصيف لوضع الشعب السوري برمته.
وحقيقية الأمر تكمن في أن السلطة الحاكمة ذات الطابع الاستبدادي لا تنتهك حقوق الحياة وحسب, بل تنتهك اللغة وتشوهها, فتبدل المسميات وتفرض ما تشاء من الدلالات الاستبدادية التي تسبغ المفردات بما يناسبها.
وقد نعتقد في موضوعنا, حول مفردة الأمن, أن الحكومة تضع قناعاً يسهل عليها عملية الإدعاء بأنها مصدر الأمن والأمان, حيث تحقق مفهوم هذه المفردة من حيث السعي إلى اطمئنان الأفراد وراحتهم, إلا أنها لا تتوقف عند هذا السبب وحسب, وما عاد يهمها أن تتبدى بمظهر ديمقراطي, بل تسعى إلى زرع ثقافة جديدة بلغتها السلطوية, تدفع من يقع تحت حكمها إلى الاقتناع أن اللغة ذات وجهين, فأمن السلطة الحاكمة يقابله رعب الفرد بل ربما موته, أو الأدق اشتهاء الموت الذي لن يطاله إلا بعد رحلة عذاب لاتوصف, وكذلك الأمر فإن أمن الأفراد الذي بات يوصف بالإرهاب يقابله انهيار الأنظمة.
لذا إن اقتربت من أمنهم فقدت أمنك, وإن اقتربوا من أمنك تعزز أمنهم. أي هو المضحك المبكي في زمن اللامعقول حين يدرك الاستبداد السلطوي دور اللغة في إخضاع الفرد والهيمنة عليه.

مي الفارس