أنا العين.. والعين أنا

Bv_c3MtIUAArJf4

في البدء كانت لغتي ولأنها الأقدم بين اللغات بقيت هي الأصدق فأنا مفطورة على الصدق وما تضمرونه في عقولكم وقلوبكم أظهره رغماً عنكم، أنا أنتم، وأنتم أنا، دليلي هو تربّعي المكان الأعلى على كلّ حواسكم وأيّة علّة يُصاب بها الجسد تبدو واضحة عليّ فمرضكم مرضي وكذلك عافيتكم، والأمر لا يختلف بالنسبة للروح وللنفس، فأنا مرآة أنفسكم.
وما يجول بخواطركم وميزان عقولكم، أنا إن أسرعت وأضطربت حركتي وكانت عشوائيّة وحياديّة ولا تشي بشيء فعلى الأغلب ما يكون العقل مريضاً، وكذلك عند ما أتجمّد شاخصة ولا أحدّق بشيء، وإن كان العقل في أفضل حالته تسكنني الطمأنينة والوقار.
انا حقيقتكم والنافذة التي تطلّون بها على العالم وكذلك التي يُطلّ العالم من خلالها على دواخلكم، فأنا ألخّص حالتكم النفسيّة والشعوريّة وحتّى اللاشعوريّة، وأقدّم البيان الواضح على ما تفكرون.
لا أحبّ الكذب لذلك لا أتحالف معكم حين تكذبون وأخوّنكم، ولا أستطيع الثبات والتحديق في عيون من تمارسون كذبكم عليه، يسرّني صدقكم وأبدو واثقة ورزينة.
أنا حقيقتكم المضمرة والأكثر صدقاً وثباتاً عندما تتأرجح ألسنتكم وتزيغ نواياكم أعبّر عن كلّ تقلّباتكم، إن فرحتم وضحكتم أصدر بريقاً جميلاً وجذّاباً، وإن عشقتم فرحي وهدوئي وصفائي يفضحكم حتّى إن لم تبوح كلماتكم، فالصبّ تفضحه عيونه، ولأنّ أسود الليل كان يغشاني ويحول بيني وبين أن أحذّركم من أعدائكم الكثر عندما كنتم في غابتكم كرهتموه وصار الأسود شؤمكم وخوفكم، ولكي أساعدكم في خوفكم أستفزّ وأستدير وتتوسّع حدقتي وأبدو شرسة وقاسية.
ذلّكم وانكساركم يجعلني جامدة وأسدل جفوني لأداري اكتئابي، عند تعجّبكم من أمر ما أقضب حاجبّي وأوسّع عدستي وأرفعها قليلاً للأعلى، وإن تشاغلتُ عنكم بالنظر إلى ما حولي وأنتم تحدّثون أحدهم، وأشحتُ عن عيونكم، ضجرتم وشعرتم بعدم اهتمامه بكم لأنّكم تعرفون أنّ ( العين مغرفة الكلام ) وفي محاولة منكم لتقعيد لغتي أطلقتم عليّ صفات شتّى منها العيون الشريرة والثعلبيّة والنمريّة والجريئة والحذرة، وكذلك العيون الضاحكة والناعسة والحالمة، والكثير من الصفات الأخرى متناسين أنّني أعبّر عن كلّ ما لا تستطيعون التعبير عنه بكلماتكم، لذلك لا يمكن أن تصفوا كلّ حالتي بالكلمات، فأنا أؤخذ بالإحساس والأحاسيس. مفرداتي إن حزنتم رفعت هدبي السفلى للأعلى وزرفت دمعاً وأحياناً أخبئ قهري، فبكاؤكم يحزنني ويذهب بصفائي ويجعلني مشوّبة، ويصبح الأحمر بعض لوني، وإن أردتم تعجيز خصمكم في شأن ما عزمتم على (كسر عينه) اتهمتموني بالحسد حتّى أنّكم صنعتم تعويذة لذلك، وإن أردتم ان تعبروا عن امتعاضكم من أحد ما (احمرّت عينكم منه).
أزرف دمعاً على أحزانكم وأحياناً دماً، وكلما ازدادت مشاهداتي لما يرعبكم ويخيفكم أقلّص مساحتي، وأكسر جفني، ويضيع بريقي وأشخص أكثر، يتعبني أحياناً سهركم وقلقكم على أحبائكم، ويهدني الكرى ولكي أرتاح قليلاً أطبق جفوني وأودّعكم وأدعكم تستسلمون لنومكم. ولست مسؤولة عن لا واقعيّة ما ترونه في أحلامكم، وإن كنت مسؤولة عن مادّته الأولى.
على مدار أربع سنوات رأيت ما رأيت كدّت أجنّ فرحاً وصفا لوني، ضحكت وأرسلت بريقي أمامكم وأنتم تهتفون لحريّتكم، لأنّ حريّتكم حريّتي، نعم حريّتي، فهواء الخوف والقمع وكلّ ما ينتجه الاستبداد يحاصرني ويمنعني من أن أجول بحدقتي في كلّ الاتجاهات، أو أنظر للأعلى، ويرغمني على التحديق للأسفل.
سهرت معكم ليالٍ طويلة حدّقت بكلّ طاقتي لأرصد تحرّكات أعدائكم، كنت معكم على مناظيركم وكمراتكم وأنتم تسجّلون وقائع ثورتكم، تقلّصت، تمدّدت، تجمّدت في وجه صغير وأنا أنظر إلى أحد والديه وقد تمزّق أشلاءً، زرفت دمعاً، خالطه دم، وبعدها غرت عميقاً في محجريّ، وغادرني ألقي، وألقي إن غادر لا يعود، أرخيت هدبي ورمشي، حشدّت كلّ طاقتي في حدقتي بعد أن ثبّتها في الوسط منّي وأنا أراقب على ارتفاع شاهق طائرة غدر ثبتتْ في السماء، جحظتُ واستدرتُ وانفتحتُ بكلّ طاقتي عندما رأيت برميل البارود يهوي كقدرٍ من الأعلى، ركضتُ تعثّرتُ، ومع سماع صوته أطبقت جفوني وسادني الظلام، انفتحتُ بعدها على ما هالني من دمار وخراب وأنقاض وبكاء، زرفتُ من الدمع الكثير وغرتُ في محاجري وغادرني بريقي، وبريقي إن غادر لا يعود.
حدّقتُ بانكسار وأسىً في بيوتكم، وأنتم تلقون عليها النظرة الأخيرة في الوداع، وكما في كلّ كبائر فواجعكم، بدوتُ حزينة كئيبة وضاعت ألواني، ولم يسعفني دمعي.
في غربتي أنظر إلى كل ما حولي بجفاء، فلم آلف الأشياء ولا هي ألفتني لا شيء يسرّني (فأنا بعد فراقي الوطن لا ساكناً ألفت ولا سكنا).
أكبر وأقسى ما لقيته من أهوال كان في سجون الطغاة عندما كان المحقّق مصرّ على أن يحدّق بيّ طويلاً، ولأنّني لا أكذب رأى فيّ ما يضمره العقل والقلب (الطغاة بغاة)، لم يحتمل نظراتي قرّب رأس الحربة منّي، حاولت أن أحمي نفسي، أطبقت جفوني بكلّ ما أستطيع لأدافع عن نفسي، لكنّ الحربة اخترقتني ولأنّني لا أستطيع أن أصف شدّة ألمي، زرفتُ دمعي ودمي وكلّ سوائلي، زرفتُ بصري، لكنّ بصيرتي كانت على يقين أنّه وفي هذه اللحظة ثمّة أعين كثيرة تبصر النور.

أسعد شلاش