ثقافة التعميم وتعميم الثقافة

10361051_647286855356447_7957958839803075222_n

على مدى عقود وقوّاد يأمر جرذانه ليصبّوا «زيوان ترّهاته في رحى استبداده»، فيكون الناتج طحيناً أسود يعجن بماء الخوف ويوزّع على الرعيّة ويقال لهم»
«لكم كامل الحرية أن تصنعوا منه ما تريدون».
وبعد ألف ميتة وتعب وشقاء لا يمكن أن يكون الناتج إلّا خبزاً أسود لونه واحد وطعمه واحد يقتات عليه من هم في حسابات المستبدّ خراف لا يحكمها أيّ خلاف أو اختلاف إلّا في (الماع أو الباع)، فيسري في النسغ يخالط جيناتها والصبغيّات، ويثمر مفاهيم يغلّفها ببريق وبديع الخطاب والأحكام والأمثال، ليصدرها سماسرته وتعمّ وتعمّم في مفاصل البسيط والعادي من يوميّات الحديث، ويتمّ تناقلها عبر الأجيال وغالباً دون تمحيص أو تدقيق، وكأنّها من طبائع الأمور.
ولأنّ القمع سيّد الموقف يصبح من المسلّم به أن (زيوان البلد ولا حنطة جلب) وإن احتج من أسود طعم ثوانيه وسنينه على زيونة عمره «وزنوزنة» وطنه، وسوسه بسياسة لا يعرف إن كانت دينيّة أو علمانيّة أو قوميّة.
واقترح جلب حنطة معدّلة أثبتت جودتها بعد تعب وتجارب، وزرعها في أرضه وبطريقته ورواها بماء عذب من ينابيعه وغربلها للتخلّص من الشوائب التي لا تناسب أرضه وسماءه.
غشى الصمت السواد الأعظم ووسوس له جلّهم محذّرا (إذا كان الكلام من فضّة فإن السكوت من ذهب)، وشتان بين صمت من ذهب يتمخّض من رحمه كلاماً من الألماس يحفر ثقوباً في صخر الاستبداد والطغيان، فيعمل المستبدّ على تصميته بالقوّة والقهر، وما بين صمت من اقتنعوا أو اقنعوا (أن القناعة كنز لا يفنى) وآثروا أن (يمشون الحيط الحيط ويقولون يارب سترك) مبتعدين أو مبعدين عن وسط الطريق، ليعبره موكب فخامته ويركل المهمشون على الأرصفة وفي الضيق من الأزقة وعلى أطراف المدن، وما عليهم إلّا أن يصبروا منتظرين أن يأتي الفرج بقدرة قادر ف (ما بعد الضيق إلّا الفرج).
وفي مؤامرة قذرة عتّم على من قال»
(ما بعد الصبر إلّا المجرفة والقبر).

خوف خوف خوف..
هواء الاستبداد ومائه يختلط ويمتزج بالخوف، الخوف من بشر عمّم الاستبداد على جميعهم الحشرنة والحيونة (فالأقارب عقارب) والذئاب تصول وتجول من حولنا، جيراننا ذئاب، بل كلّ أبناء الوطن ذئاب وقد يكون في بيتك ذئب وجميعهم يتربصك ليوشي بك، ولكي تحيا بينهم دون أن يأكلوك عليك أن تكون ذئباً مثلهم ف(إن لم تكن ذئب أكلتك الذئاب) وفي مجتمع الذئاب يتربّع الذئب الأشرس على عرشه أو في وكره وتنتشر كلاب صيده في الأصقاع لتأتيه بالنفيس من الطرائد، ويتكرّم بما تبقى من عظامها يوزّعه على شكل أعطيات وهبّات ويوهم الجميع بأنّ الفضل يعود له في منعهم من التهام بعضهم.
ومع تقادم الزمان على ما ينتجه الاستبداد من مقولات تغدو وكأنّها من طبائع الأمور فيألفها الناس وتأخذ طريقها لتصبح المقولات الأساس في تجمّعاته والتي لا يأتيها الباطل وتلهج بها الألسن في أحاديثها اليوميّة.
ومع تعمّق وتعتّق الاستبداد وجوره ينفجر ويجأر صمت الذهب في وجه ثرثرة الفضّة، باعتبارها الخطاب الديموغوجي المتعاقب لكلّ سلطات الاستبداد عن طوله وعرضه ونبوغه بين أترابه منذ طفولته معلناً نهاية زمن الصمت والتصميت، وبداية زمن (القول)، وأوّل القول الذئب الأشرس وكلاب صيده «زيوان البلد « ولا مكان للزيوان بين «حنطتنا « التي سنجلبها من حيث نشاء والطريق طريقنا، وسنسير في وسطه ولن نلوذ بالحيطان ولم يعد يهمّنا أن يكون لها آذان، فقد ولّى زمن الخوف، وأقاربنا ليسوا عقارب ولا ذئاب في الديار، إلّا أنت وزبانيتك، وما عدا ذلك بشراً تقيّؤوا زمانك وراحوا يبحثون عن زمانهم، عن آدميتهم وحرية البشر التي تآخي وتصافح وتسامح، وتأنسن ما أوهمتنا أنّه ذئبياً فينا، ولن يأكل بعضنا البعض، وقد يكون التخلّص من الذئب الأشرس المتربّع على رأس سلطة الاستبداد مهمّاً، ولكنّه لا يعني نهاية مرحلته، بل هو صفرها لتعقبها الخطوات التي لا تقلّ أهميّة، وهي تفكيك خطابه إلّاستبدادي، ومقولته التي ارتكز عليها وغدت من البيدهيّات المتداولة تستسهل العقول تتداولها وبدورها تعمل على تسطيح تلك العقول ومسخها ومسحها.
ويبقى قتل ثقافة (العقل التعميعيّ) باعتبارها الآفة الأخطر، التي تصنع بامتياز في دوائر الاستبداد والتخلّف وتصدّر وتعمّم على الجميع، هو المعوّل الأهمّ في حفر قبره، فالتعميم إمّا «عَمَه « أو «تعتيم « وكلاهما تورية للعقل، إن بدراية ولغاية أو بغيرها ومن دونها، وأنّه لا يعمّم إلّا قبليّاً ومستبدّا.
والعقل العاقل يأخذ الخطاب بخاصته وخصوصيّته باعتباره مشروط براهنيته في الزمكان، وفي خلاف واختلاف تجارب البشر وطبائعهم وتطبعاتهم، ولا يقتل ثقافة التعميم إلّا تعميم الثقافة كمفهوم معرفيّ محايد، ومن البداهة أنّه عندما تغدو لغة العنف والهمجية هي اللغة السائدة في مجتمع ما، تغيب لغة العقل ومحاكماته المنطقيّة ويشيطن الجميعُ الجميع، ويغدو خطاب التعميم هو الخطاب السائد والمسيّد.

أسعد شلاش