هروب المؤلّف “وليد إخلاصي “

 

WalidEkhlasi3

«تحمل منكَ ابنتُكَ
تَقتل بيدكَ أحبَّ الناس إليكَ
تتمنّى الموت فلا يأتيكَ
تتمنّى الموت فلا يأتيكَ»*
كذلك تردّد الجوقة على مسامع «سفيان» النبوءة التي قال بها جهاز «الكومبيوتر» بعد أن لقّنه الدكتور «البهيّ» المعلومات الخاصّة كتجربة علميّة، وكانت الشخصيّة المدروسة هي الصديق والدكتور أيضاً «سفيان»، الذي استهتر بتلك النبوءة بداية ورفضها من منطق علميّ.
بعدها تواجهه إشارات لا يستطيع أن يهملها تماماً، فابنه يتمرّ ن في المدرسة على لعب دور في مسرحيّة «أوديب ملكاً» يا للمصادفة!
ينتبه «سفيان « أكثر فيتوتّر عندما يعلم أنّ «سلاف» الحبيبة حامل منه الآن، ثمّ تصحو الأيّام السوداء الخوالي لتصفعه كاشفة قصّة علاقته مع امرأة ما، من صورتها في بيت الحبيبة، حيث يدخل رجل سكّير يُفترض أنّه والد «سلاف» لكنّ «سفيان» يعرفه جيّداً فهو الزوج الخُلَّبيّ لصاحبة الصورة؛ هنا يكتمل الجزء الأوّل من نبوءة «الكومبيوتر « لأنّ «سلاف» يُهرع «سفيان» لينتحر مُنهياً هذه المأساة العصريّة بإذابة جرعة كبيرة من حبوب دواء في كأس ماء، وإذ به يحقّق الجزء الثاني من النبوءة؛ لأنّ ابنه «يزن» يعبّ ما تركته يداه «تَقتل بيدكَ أحبَّ الناس إليكَ، تتمنّى الموت فلا يأتيكَ».
بحسابات دقيقة وبدءاً من مخطَّط لهيكل هندسيّ بنى «وليد إخلاصي» نصّه المسرحيّ «أوديب مأساة عصريّة» ليعيد طرح السؤال الأزليّ عن إمكانيّة مواجهة الإنسان لقدَره؟ وعن مفهوم القدر بحدّ ذاته اليوم؟
لم يكف «إخلاصي» في نصوصه المسرحيّة كافّة عن التجريب، وعندما يرتفع في مأساة «أوديبِهِ» مصارعاً العلم المجسَّد بـ «العقل الإلكترونيّ»، ويُهزم الإنسان من جديد عن سابق تصميم، تبدو عنونة هذا النصّ مِن قبل المؤلّف باسمٍ تراجيديّ إغريقيّ سدّاً لذريعة التناصّ، كما إضافة الجوقة، فهي هنا ليست عنصراً تراجيديّاً إغريقيّاً.
أمّا علّة البطل التراجيديّ الكامنة في ذاته، كما تكلّم «أرسطو» في كتابه «فنّ الشعر» فتبقى كما هي في تكوين «سفيان»، ويضيف عليها «إخلاصي» البيئة، محدِّداً الفقر كعامل اقتصاديّ، والعلم كطرف في الصراع بدل الآلهة الإغريقيّة، والعلم كصانع للنبوءات
لكنّ مفهوم التطهير الأرسطيّ (Catharsis) بمعنى أنّ «المتفرّج» يرى النهاية الفاجعة للبطل وقد خالف المشيئة أو النبوءة فيقول لنفسه:
«أنا لم أخالف فلن يصيبني شيء».
هذا المفهوم الذي تطوّر على يد عدّة مؤلّفين مسرحيّين وخصوصاً عند «برتولد بريشت»، ظلّ على حاله – أرسطيّاً – في مأساة «إخلاصي»، مع فارق أساسيّ هو سعي «أوديب» في تراجيديا «سوفوكليس» نحو كشف الحقيقة فيما تهرّب «سفيان» في مأساة «إخلاصي» العصريّة من مواجهتها.
تجد هذا الهروب قاسماً مشتركاً لغالب أعمال «إخلاصي» بما فيها الروائيّة والقصصيّة وحتّى في مقالاته.
في اللحظات الأخيرة من مسرحيّة «أوديب مأساة عصريّة» تصبح هزيمة «سفيان» مُذلّة حين يقول: «… فقدتُ روحي يا صديقي فساعدني على التخلّص من جثّتها، قبل أن تنشر الروائح الكريهة في معبدنا النظيف الهادئ المعقّم»، ويضع المؤلّف ملاحظة مسرحيّة (يسجد للعقل الإلكترونيّ): «ها هي نبوءاتك تحقّقت وارتوى غليلك من رجل مسكين ما كان ليطلب لنفسه سوى الحبّ والسعادة والأحلام…».**
دُرست هذه المسرحيّة من جهات مختلفة، منها جامعيّة، ضمن أطروحات لنيل الماجستير في كليّة الآداب بحلب للباحثة «علياء الداية « بعنوان» «الرموز الأسطوريّة في مسرحِ وليد إخلاصي»، وفي حمص من قِبل الباحث «حمزة الديب» بإشراف «د. غسّان مرتضى»، بعنوان «أوديب وتجلّياته في المسرح العربيّ»، ورسالة دكتوراه للباحث «إدمير كوريّة» في الولايات المتّحدة بعنوان: «الشكلُ والمبنى في مسرحِ وليد إخلاصي « وغيرها من الدراسات؛ لكنّ اللافت حقّاً، أنّ هذه المسرحيّة لم تقدّم على خشبة مسرح قطّ!.
* وليد إخلاصي – أوديب مأساة عصريّة – المنشأة الشعبيّة للنشر – طبعة أولى 1981 – صفحة 73
**نفس المصدر صفحة 83

بشار فستق