ثقافة التخلّف وتخلّف الثقافة

11535811_719670271512187_5836497624356867910_n

تعتبر الثقافة بمفهومها المعرفيّ المحايد، وبما تنطوي عليه من نشاط إنسانيّ معقلن في المحسوس والمجرّد هي القيمة الأسمى التي أنتجها العقل البشريّ عبر تراكمات تجاربه العمليّة ومعارفه النظريّة خلال سفر أنسنته الطويل، ويكمن سموّها في توخّيها الموضوعيّة والحياد في تحليلها للظواهر التي تتصدّى لها والبحث عن مسبّباتها ومن ثمّ استخلاص العبر والنتائج المترتّبة عنها وإيجاد الحلول لها بما يتماشى مع تطوّر البشر وتحسين شروط عيشهم وتعايشهم وتخليصهم من كلّ ما يعيق مسيرة تطوّرهم وتحرّرهم من كلّ القيود المفروضة، إن كانت طبيعيّة أم بشريّة، بعيداً عن أيّة تحزّبات أو محسوبيّات.
لذلك فمن البداهة أن يكون الخوف من الثقافة بما لها من تأثير فاعل وراسخ على آليّات الفكر وهو ما يقضّ مضاجع الطغاة على مرّ العصور، وظلّ ديدنهم على مرّ العصور تسطيح الثقافة وقتل موضوعيّتها وحياديّتها وتجيّرها لخدمة أهدافهم، وهي أوّلاً وأخيراً التشبّث بالسلطة ولو على حثّ المواطنين جميعاً، وإن عجزوا فخنقها، وتسود ثقافة التخلّف الرخيصة والمبتذلة التي تسطّح كلّ المعارف التي أنتجها العقل البشريّ، إن كان في العلوم من سياسية واقتصاد واجتماع، أو في الفنون قاطبة ويكون الناتج هو إفساد وهدم القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، فيصبح الطاغية الطاعن في تخلّفه والنخرة عظامه بداء عظمته أباً وقائداً ملهماً وحكيماً برقَ به الزمان في غفلة منه.
ويتسابق المتثاقفون المنافقون النافقون الذمّة والضمير ممّن يعتاشون على فتات وفضلات موائد الطغاة في أسطرة كلّ حركة أو كلمة يجود بها حكيم الزمان وتزدان الشوارع والساحة والغابات وحتّى المساجد باسمه وأسماء عائلته، وتزدحم سجلّات النفوس بمواليد تشرّفوا بحمل اسمه أو أيّ من أسماء عائلته العتيدة، وفي نكتة سمجة وبين ليلة وضحاها تصبح قرينته السيّدة الأولى ويتسابق رجالات لصوص المقدّس راضين أو مرغمين على الدعاء له بطول العمر وعرضه، والنصر المؤزّر على الأعداء المتآمرين على الأمّة والوطن، إن كان في خارجه أو داخله، شاكرين الله أن اجتباهم من بين البشر ليرفلوا بالعيش في حقبة تاريخيّة اجتبى الله سيادته ليخطّها بحكمته ويعيد لهذه الأمّة أمجادها التي خانها الخائن والعميل الذي تسلّط قبله.
وبناء عليه وفي إسقاط تاريخيّ مسخة ومسخرة، يجدّد له عموم شعبه البيعة بالدم في عرس وطنيّ بفواتير مفتوحة يعرس فيه الأب على السلطة وللأبد، ويغيب في السجون من باح بحلمه عن موت سيادته وبقلب للمفاهيم وتزيف للوقائع تصبح دكتاتوريّته مدرسة للديموقراطيّة، ويسوّق الخضوع والذل والعبوديّة لأوامره على أنّه أرقى أشكال الحريّة، وتصبح القِوادة السياسيّة وما يتبعها من ارتزاق وتكسّب على حساب عرق ودمّ السواد الأعظم مهنة للكثيرين، ويعتلي القوّادون مراتب قياديّة في أغلب مفاصل الدولة، وتُنهب ثروات البلاد من قبل قلّة قليلة على رأسهم القائد اللصّ وأقرباؤه والأعوان، وتذهب للبنوك الأوربيّة ويفقّر العباد تارة لمحاربة عدوّ خارجيّ يتربّص بمقدّسات الأمّة المتجسّدة في شخص سيادته، وأخرى في إقامة مشاريع عادة ما يكون جلّها خاسراً بسبب المحسوبيّات والفساد الذي يغدو بدوره من طبائع الأمور وفهلويّة لا غبار عليها، ويصبح الوطن مزرعة ومواطنوه عبيداً، يأتمرون بأوامره ويتكرّم عليهم القائد بالهبات والأعطيات في الأعياد والمناسبات، ويكدح غالبيّة المواطنين ليلاً نهاراً ليؤمّنوا قوت عيالهم وتغلق أبواب العمل في وجه الكثير من الشباب، فترتفع نسبة البطالة ويضطرّ الكثيرون لمغادرة البلاد ضاربين في مغارب الأرض وشمالها، وقلّة منهم في جنوبها وشرقها بحثاً عن الرزق، ويعتري من تبقّى الإحباط واليأس فيسلك البعض طريق الرزيلة التي تقوده إلى المخدّرات بكلّ أنواعها وإلى الدعارة وتنجب القِوادة السياسيّة ما يشبهها جسديّاً، وتتفشّى الدعارة وتصبح مهنة للرزق والارتزاق، يُمتهن فيها الجسد والروح بمعرفة وتسهيل من أولياء الأمور، ويكون ردّ الفعل الطبيعيّ أن يدفع هذا اليأس لظهور حركات متطرّفة سماويّة وأرضيّة، وما بينهما هواء ساكن مشتّت خفيف، وتغدو الموالاة هي المعيار الأساس وتنكفئ الكفاءة والمهارات فيصبح المهرّج الرخيص فنّاناً والدجّال الأفك فيلسوفاً والديك أبو الفنّ وجدّه، والمشعوذ شيخاً ترتجى كرامته ويقبّل مريدوه رجليه، وتباع ملايين النسخ من صورة لشجرة قيل إنّها وجدت في ألمانيا شكّلت غصونها بشكل طبيعيّ اسم الذات الإلهيّة (الله)، ثمّ تنكشف الخدعة وهي أنّ الشجرة لوحة لفنّان مصريّ باع منها ملايين النسخ ويغيب ويُغيّب العقل ويصمت المثقّف المعترض والمعارض بنفيه أو اعتقاله، وتغيّبه في السجون وإن اقتضت المصلحة السفلى فتصفيته.
وبناء عليه تنهار المنظومة الأخلاقيّة في المجتمع ويهدر دم الثقافة، فتمسح دموعها وتتوارى في ثقب أسود وتنهار الدولة بمفهومها المدنيّ كدولة مواطنة وتغدو مجرّد عصابات مافيويّة تدوس على الدساتير والقوانين لتحقيق مآربها الشخصيّة بأبخس الطرق وأنذل الأساليب، وتسود شريعة الغاب وتضيع الحقوق فتتراجع انتماءات البشر إلى دوائرهم الضيّقة ويرتدون إلى ثقافة متخلّفة فضاؤها الأسرة أو القبيلة أو العشيرة، ويردّد الجميع سرّاً وعلانيّة: «وما أنا إلّا من غزيّة إن غوت غويت وإن ترشد غزيّة أرشد» وتتفشّى الأميّة ويعمل المدرّس أجيراً مياوماً عند طلّابه، والطبّ يصبح تجارة يموت فيها المرضى من الإهمال دونما حساب، ويغدو القضاء مؤسّسة فاسدة تبرّئ الجاني بأمر من الأجهزة الأمنيّة وتنتشر الخرافة فيساكن الجنّ الإنسان في ذاته ويستيقظ الذئب لينهش لحم ما حوله من ذئاب، وأمام هذا القهر، وفي لحظة تاريخيّة ينفجر الجميع في وجه تخلّف ثقافة الاستبداد باحثين عن ثقافة تعيد لهم حريّتهم وكرامتهم، وتكون الثورة هي القدر التاريخيّ للخروج من هذا الاستعصاء.

أسعد شلاش