انفجارات “بوشار” ما بعد العبث

ARP_0335_3

يحاول «راهيم حسّاوي»* أن يخلق فتحة في نفق النصّ المسرحيّ المسدود، فيقلب المعادلات، كأن يبادل الخشبة بالصالة والممثّل بالمتفرّج، ويجعل بينهما «شاشة قماش صغيرة، يظهر عليها فلم رديء وممّل وصامت»**
يرصف «حسّاوي» المنصّة المسرحيّة بالكراسي المرقّمة ويحدّد لكلّ شخصيّة كرسيها الخاصّ، منتقياً أعمار الشخصيّات من الستّين وحتّى الطفل في حضن جدّته، ويضع قياساً بالأمتار لأبعاد المكان، أمّا الزمان فهو غير محدّد بدقّة، وإن كان زمن الفعل المسرحيّ مطابقاً للواقع.
الأداة المسرحيّة (الأكسسوار) الوحيدة لدينا هي «البوشار» والتي تشكّل وسيلة تواصل بين الشخصيّات، وتلمّح إلى سلوكها؛ يخاطب الرجل الستّينيّ صاحب الكرسيّ الملاصق له:
«رجل الكرسي 3/1: توقّف عن تناول البوشار، إنّك تثير سخطي
رجل الكرسي 4/1: لستُ أوّل شخص في العالم يأكل البوشار أثناء مشاهدة السينما»
ولا تخفى دلالة «البوشار» كشيء هشّ فارغ، وإنْ عنون المؤلّف عمله بهذه الكلمة، فهذا تأكيد على النظرة «الكامويّة» (ألبير كامو)*** التي تربط العبث بالتمرّد، فكلّما نشأ خطّ دراميّ عن تطوّر الحدث وبدأ يتصاعد، سارع «حسّاوي» إلى قطعه، ولن تجد ذروة لصراع إلّا وتتلاشى لحظة تشكّلها.
لذلك يغدو الحوار تقاطعاً لكلمات من صاحب كرسيّ برقم إلى آخر:
«رجل الكرسي 3/8: هذا فيلم صامت
رجل الكرسي 3/1: ليس صامتاً، خللٌ ما أصاب جهاز الصوت
رجل الكرسي 4/1: لو كنتُ أعرف هذا لما جئتُ»
وتأتي عناصر مثل: التكرار والغموض والصمت في الحوارات، لتؤكّد الأسلوب العبثيّ (ABSURDE) المعادل لسلوك الشخصيّات التائهة والتي لا تملك القدرة على الرؤية، والخالية من الهدف.
«شابّة الكرسي 2/5: لن تجدني في الصفّ الأوّل من الكراسي، لا أحبّذها، لا يوجد أمامها مساند كراسي كما الصفوف الأخرى، هكذا أنا مرتاحة في مشاهدة الفلم
رجل الكرسي 3/8: أيّ فيلم تتحدّثون عنه، هناك مشاهد تتكرّر، تابعوا جيّداً، لقد شاهدتُ هذا المشهد مرّتين
شابّ الكرسي 1/3: ربّما فكرة الفيلم هكذا!
امرأة الكرسي 6/3: أحسنت، فكرتك مدهشة، ربّما فكرة الفيلم هكذا»
من هنا، لا يمكن تتبّع «الحتوتة» بالمعنى الكلاسيكيّ لسردها واستخلاص مقولة، فنحن أمام مجموعة بشريّة لا صلة بينها سوى تشاركها في مشاهدة شاشة، وتناول بعضها «البوشار» ثمّ تغادر القاعة بلا صلة. وحتّى لا يكتمل هذا الخطّ – أيضاً – تبقى إحدى الشخصيّات وهي: الشابّة 2/5 «تبدأ بتناول البوشار وهي تنظر نحو شاشة القماش المخصّصة للفيلم».
لغة النصّ فصيحة وترتقي عبر تكثيف الحوار، ما يشي برغبة المؤلّف في قول ما يسمو على الدارج من جهة الفكر، وبلا تفلسف، لكنّ مجمل النصّ مهندَس كلعبة تُعزل فيها الشخصيّات، يأمل القارئ من خلالها أن يتكشّف له شيء ما، يُخيّب «حسّاوي» ظنّ القارئ، ولا يترك سؤالاً مفتاحيّاً. ربّما أراد أن يترك لتجسيد المسرحيّة فيما بعد، اقتراح مرآى يُخرِج فيها حالة الكتابة من نفقها.
في احتمال التجسيد يمكننا أن ندع الممثّلين الجدد يختارون فيلمهم ومقاعدهم، أو لا. أن يأكلوا «البوشار» أو لا. أن يكون لهم أسماء وألقاب وأمل قد يتحقّق أو لا.
عندها سيتحدّثون عن أيّامهم الحقيقيّة، ويبدو المشهد من «ما بعد العبث» وكأنّه أنا وأنت – من جديد – نواجه السؤال.
هوامش:
*راهيم حسّاوي (1980 – ) كاتب مسرحيّ سوريّ، من مؤلّفاته: السيّدة العانس (2010). الرخام – الهيئة العربيّة للمسرح بالشارقة (2011). أنشودة النقيق – دار تالة بدمشق (2012). وله رواية: الشاهدات رأساً على عقب – دار العين (2013)
** نُشر النصّ على موقع «العربي الجديد» 3 حزيران 2015 http://www.alaraby.co.uk/texts/2015/6/3/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%88%D8%B4%D8%A7%D8%B1 ***(Albert Kamus) ألبير كامو (1913 – 1960) فيلسوف وجوديّ وكاتب مسرحيّ وروائيّ فرنسيّ – جزائريّ.

 

بشار فستق