رواية «الجوخي» لعبد العزيز الموسى

%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d8%a8%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%8a%d8%b1-%d8%aa%d8%b7%d9%81%d8%a6-%d8%b9%d8%b7%d8%b4-%d8%b5%d9%8a%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88

رواية «الجوخي» للكاتب عبد العزيز الموسى، تمت طباعتها بدار الشموس للدراسات والنشر والتوزيع عام 2002. وتعيد زيتون نشرها على حلقات ليتمكن القراء من الإطلاع عليها لا سيما أنها غير متوفرة الكترونياً.. (1)

آخر التشارين، لوحّت بشدة بلّوطات التل فحّت، تمطّت من وراء الجبل غيمة التهمت زرقة السماء أعتم لونها، اكمدّت، شخط البرق تكسر, تقدّم ساطور البرق جلجلة السماء المتحركة على لبّاد مدّرع بالعتم تثّور بالهواء والدوّي قطرة باردة ثقيلة، قطرات، خيوطاً تواصلت من المطردون انقطاع تشخبها الأرض العطشى من ضرع الغيمة الدكناء.
أعولتْ نسوة المغارة واندفعن بهلعٍ عبر الأزقة لائباتٍ عن الصغار المتخلّفين تحت عجاجة المطر المدويّة.
لا يمكن لقوة المفاجأة أن تسمح بترتيب ما يمكن إنجازه لن تجد من يتفرج , سخال انفلتت للتو, غنمات لاطئات مستسلمات وراء السياج, مقددات على الأسطح الترابية المتفوّشة, أثلامٍ زاربة, اختلاط البعر بالتبن بالوحل في مجاري الآبار, السرعة ما أمكن بنقل الجل الناشف وتغطية ما بقي من المؤونة قبل تعرّضها للبلل.
أهل المغارة بكسل واضح يتحركون إذا خفّت حدة التهطال, يحدّقون في آبار الماء بغبطة غير آبهين لتبقّع ثيابهم بالوحل الذي سيشكل لون حياتهم حتى ما بعد الحصاد.
الزيتون لم يقطف, ولا دبّس العنب, وما تزال تلال التبن مركومة على البيدر, ولا بُذرتْ أرض المغارة.
لكنه مزاج سماء المغارة المبكّر, عشيبات غضّة هي كل ما في الأمر ستتسلى بها أسنان الجدايا إذا كان المناخ مواتياً.
كالعادة يحصل هذا بين كل تشرينين.
فلاحّو المغارة عادوا من الأرض يزربون الماء من أعنابهم, يسوقون أبقاراً ممعوطة الوبر بعد صيف دافئ, بوضوح يمكن سماع حوافر البغال وهي تقرع بهمة وانية درب المغارة الصخري الصاعد نحو قصر التل من جهة الغرب قبل مغيب شمس المغارة بقليل.
وقفت أمّون الحمدو مصالبة ذراعيها على ريف تلة القصر الصخرية المشرفة على الوديان الغربية المخضوبة بالبخر وعلى أسطح المغارة الخامعة المتفّوشة بالمطر.
أمّون تعاين النتائج التي ستنقلها للبك, أمون في المغارة جزء هام من وجوده.
أمّون على وجه السرعة أوفدت ابن أختها شعبو لأبي شريف مختار المغارة ليتدبر أمر عربة البذار العائدة من الأرض وقد غاصتْ عجلاتها النحيلة في الوحل قبل أن تدرك المسلك الصخري الصاعد للعنابر بقليل.
بارتياعٍ صامتٍ تلاحق أمّون حوذي العربة الذي لم يتوقف عن سوط قطايات البغال مرة ومقدمة رؤوسها مرة أخرى مشفعاً سوطه بأصوات عالية مهددة للبغال وأصل البغال لكن دون جدوى.
قاربت شمس المغارة الحمراء المترجرجة المتشققة بعشيبات الأفق على المغيب, الغيوم المنفلتة السارحة جهة الغرب تشوظت جنباتها بحمرة متقدة ارتسمت ولكن بحمرة أقل على جدران المغارة الطينية المواجهة صوبها.
جلياً جعير المختار أبي شريف يستحث الرجال المتراكضين المتناخين في المنحدر وقد بللهم العرق وغمرهم التعب وهم يلهثون , فالوحل وقد ابترد الجو عض على عجلات العربة الغائصة فيه , بنفسه وعن كثب عاين المختار حجم الموقف المؤكد بهمهمات من معه من الرجال.
جيء ببغال أخرى وكدّنت على العربة, أعادوا كرّات الصياح وضرب البغال والحداء والتناخي وتهيئة الحجارة لتوضع وراء العجلات لو تحركت, أيضاً دون جدوى.
آخر الأمر أحضرت حمير وبغال حمّلوها أكياس البذار العائدة كيساً كيساً وتم نقلها لعنابر القصر الخلفية كي تتخّفف العربة من ثقلها.
من جديد ترجّعت الصيحات بعد تكاثر أضواء الفوانيس المرتجفة على البغال وهمم الرجال وهم يدفعون بكل قواهم حتى أمكن اقتلاع العجلات من لزوجة الغضار الماسك عليها.
أمكن رؤية البهائم والأصوات والفوانيس تتسلّق المنحدر, أبو شريف وهو محاذً للبغال يسوطها على آذانها وظهورها دون رحمة ويعاود كل مرة عقد ذيل قنبازه كلما تداعى أحد البغال ثم يتم إنهاضه بسرعة على قوائمه بسواعد الرجال وأصواتهم اللاهثة المرتجفة.
أبو شريف يقرّع المتوانين من البغال والرجال بألفاظ نابية ساخطة مغالباً هبّات لهاثه بصورة تبعث على الإشفاق لاعناً أمه التي ولدته على هذه القذارة التي هي المغارة وكتب عليه أن يعيش مع هؤلاء الهمج طيلة حياته.
مع أذان العشاء وصلت العربة, حمّلت عدّتها لعنابر القصر على أكتاف الفلاحين الحفاة, فكّت ألجمه البغال وأحزمتها ثم جرت إلى الزريبة.
آخر الواصلين أبو شريف تداعى فور دخوله على أكياس البذار وهو يلهث, البقية من الرجال يوصدون بنزق بادٍ الأبواب دون تلطف أو حذر مستثمرين إرهاق المختار ولا مبالاته, أرجلهم محملة بالطين البارد الناشف كلما عبروا غير عابئين بدمدمات أمون المسموعة, في النهاية لعنت وسبت وهي تومئ بسحنة شاتمة لأكداس الطين التي خلفتها أقدامهم على الممر الواصل بين القصر والزرائب, أخيراً قالتها بصوت حاد كما لو أنها ستبكي من الغيظ يا بقر..
كان أبو شريف يداري ارتجافاً كلما عبرت به أمون متعجّلة في محاولة لكشط حمولات الوحل الملتصقة دون أن توقف استرسال لسانها في السباب, فجأةً قبّ أبو شريف في وجهها صائحاً:
اختفي من أمامي أيتها الحية اللئيمة هل نشكل أقدامنا بخصورنا ؟ لا تتدخلي بما لا يعنيك يا امرأة هل سمعت؟ قسماً بالله.. وشرع سوطه في الهواء وإلا..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*