مأساة وثائقيّة مستمرّة

13435482_1042454832503238_5805486353170263253_n

ممّا يشغل بال السوريّ ولا ينفكّ يدور في رأسه كهاجس يوميّ موضوع الهجرة بأدقّ تفاصيلها، ولا يمرّ حديث بين اثنين منهم دون أن يتطرّأ لهذه المسألة، وهذا ما استهلّ به نصّ حواريّ حديث كتبه ممثّلان شابّان هما «حسن البوحسن» و «محمّد الملّلي» بعنوان «ضحايا العصر»* في مقاربة واقعيّة عبر شخصيّات تمثّل طيفاً من المجتمع السوريّ.
يلج الكاتبان موضوعهما مباشرة عبر حوار بين خمسة شبّان يتداولون فيما بينهم ما آلت إليه أوضاعهم، فيبدي أحدهم تصوّره بالقول: «ولله ما أعرف، بس إذا بقيت الأوضاع هيك موبس مستقبلنا ضاع، مستقبل ولادنا وسلالتنا كمان رح يضيع» محرّضاً على التحرّك باعتبار أنّ التهديد وجوديّ وجماعيّ، وتصل المجادلة إلى اقتراح السفر إلى أوروبّا، ولكن تنفيذ الفكرة – رغم عدم موافقة الجميع تماماً في البدء – تصطدم بحاجز تأمين المال، إذ يتساءل حسين ويجيب: «أوربا بدها مصاري مصاري بتعرفوا شو يعني مصاري؟! يعني دولار يورو ومو أي واحد فيو يطلع» ثمّ تظهر تفاصيل وتتداخل مع العقبات والحلول تباعاً، يقول مصطفى: «القصّة بدها مصاري، بس في طرقات بياخدوا مصاري قليل متل البحر وكتير ناس طلعت بالبحر ووصلت وهلق هنن بالكامبات وبعد فترة رح ياخدوا الإقامة»، وهنا أوّل إشارة إلى البحر كطريق وكاحتمال للغرق، لكنّ اليأس يحلّ محلّ الإجابة ويصبح نقطة قوّة حين يقول حسين: «خيّو نغرق بالبحر أحسن ما نغرق بالحياة!» ويصبح العمل على إيجاد المهرّب (الكويّس) الخطوة التالية.
يرسم النصّ في مشهد لقاء أحمد – وهو أحد الشبان الخمسة – مع المهرّب «أسامة» بحوار ذكيّ وحيّ، علاقة تتمّ فيها صفقة تحدّد مسار الرحلة المفترض وتحسين شروط الدفع، إذ يطرح أحمد تخفيض السعر: «بس أنا مو لحالي نحن خمسة أشخاص» ويتساهل المهرّب «أسامة»: «حلو كتير إذا هيك إلكم سعر خاص»، ونلمح توسّعاً في العمليّة عندما يزداد عدد المشتركين بها، كعائلة «أبو لما» المكوّنة من الأمّ والابنة، وتظهر شخصيّتا المهرّب الأعلى مرتبة «كمال»، و «البارون» كمتحكّم ومسيطر باعتباره مالكاً لقارب التهريب.
تلتقي المجموعة في حديقة تمهيداً للانطلاق، ونكتشف خلفيّاتهم الاجتماعيّة وأحلامهم من خلال إعادة التعارف بينهم في هذا الظرف الاستثنائيّ كمشروع مهاجرين، يستفسر أحمد عن دراسة الفتاة اليافعة «لما» باعتبارهم جيراناً سابقين في سورية: «كيفك لما؟ وكيف كانت دراستك إن شاءالله نجحتي؟ لما: الحمدلله، بس ماقدمت امتحان لأنّو كان في قصف.» وتلوح الهجرة كأمل وحلّ من جديد، «خالد: الله يعين يالله بكرا تكمّلي دراستك بأوربا إن شاءالله.» ويؤكّد الوالد أسباب وأهمّيّة قراره بألم، «أبولما: آخ يا ابني.. والله ماخلّاني بيع أملاكي كّلها وفكر بالطلعة برّات البلد إّلا مستقبل هالبنت..».
في مشهد ليلي داخل شقّة يضعهم فيها المهرّبون، يقضي المهاجرون – الشبّان وعائلة أبو لما – ليلتهم الأخيرة معاً بانتظار الإبحار، ويبوح كلّ بأحلامه عمّا بعد الوصول إلى أوربّا فيقول شاهين: «عم فكّر كيف بعدما أوصل ع أوربا وآخد الإقامة، مباشرة رح أنزل وأكتب كتابي وأعمل لمّ شمل..وأبعت لخطيبتي يلي صار لها سنين عم تنتظرني.. ما قدرت لمّ الشمل هون بلكي بحسن بأوربا!»، ويحلم مصطفى بأن: «أنا بدّي كفّي دراستي، كان حلم أبي أني كمّل دراستي والأوضاع ما خلّتني أنّو حقّق حلم أبي بلكي بأوربا بقدر حقّق حلمه». تنضمّ مجموعة أخرى من المهاجرين، يقرّر المهرّبون ساعة الانطلاق، ترتفع المعنويّات بين المهاجرين إلى درجة أنّ بعضهم يبدؤون بالغناء.
في اللحظات الأولى من الانطلاق يعترض «حسين» على كثرة العدد خشية الغرق، «حسين :(يصرخ) ماني طالع ما بدّي.. هاد المركب رح يغرق فينا.. هاد المركب قديم كتير»، فيُعامل بعنف من قِبل المهرّبين ويقمع ثمّ يُرمى في المركب رغماً عنه، فيما يصمت الباقون ويصعدون، ويخاطب مالك المركب «البارون» المجموع بسخرية: «يالله.. الله معكم، سلّمولي على أوربا.. على أرض الميعاد..».
في عرض البحر وبعد سبعة أيّام تموت خلالها طالبة الثانويّة «لما» وتضطرّ المجموعة إلى رميها من المركب وتتكسّر الأحلام، يفرّ «شوفير» المركب بعد أن تعطلّ المحرّك، وأخيراً يغرق المركب وسط صراخ المهاجرين.
في اللوحة الأخيرة – بحسب تسمية الكاتبين – عبر قناة تلفزيونيّة تنقل مذيعة نتائج حادثة غرق على شاطئ إيطاليّ منهية هذا النصّ «المذيعة: …ويُعتقد أنّ كلّ من كان على متن القارب قد غرق، بسبب عدم العثور على ناجين».
لكنّ المأساة الواقعيّة، مازالت مستمرّة.
هامش:
*النصّ مخطوطة، لم تُطبع ولم تُجسّد بعد.

بشار فستق