الشباب السوري بين الإتكالية والإبداع

 

main_1200 (9)

زمان..
اعتاد المواطن السوري أن يقوم النظام السوري الشمولي بتكفل أموره جميعها من المهد إلى اللحد، وكانت خطواته مدروسة ودوافعه معروفة وآفاقه محدَّدة وخياراته ممحيَّة. كانت الحياة في سوريا تشبه تراجيديا يونانية قديمة يمثِّلها الإنسان المعاصر، أو يتمثَّل خطوطاً وضعت له ويتبعها لتصبح الحياة عبارة عن لعبة مسارها مرسوم بدقَّة. فقد حوَّل النظام حياة المواطن السوري إلى قصة الفأر الذي يتبع قطعة الجبن. يدور الفأر في الدولاب اللعبة دون أن يتحرَّك الفأر، أو تتحرَّك قطعة الجبن، فحياته كلها عبارة عن ركض خلف أهداف مرسومة بعناية، ومستلزمات الحياة الأساسية كانت أقصى طموحاته، ولم يُسمَح له بالاستقلال والمبادرة والابداع، فالزمن هو الدولاب الذي ينزلق تحت أقدامه من غير أن يتحرَّك، ولا بأس من التأكيد على أن المادة الثامنة بالدستور، وحكم الحزب الواحد، وتسلُّط الأمن على العباد كان له أكبر الأثر في غياب الإبداع، والفعل المدني بشكل جماعي، وحتى فردي.
تعليم
يولد الطفل وتتكفل الدولة أموره جميعها، ما يشاهده وما يراه وما يفعله.آرائه في القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية مبرمجة بعناية، على نهج قائم على الاعتدال والتوازن والضرورات التاريخية والاعتزاز بالماضي الجميل والصمود في وجه التحديات والسعي للغد الأفضل، ويقوم النظام بتعليمه مجاناً، مع الشك بقيمة هذا التعليم في ظروف اقتصادية سيئة، وبنية اجتماعية متعبة ومحبطة تجعل الفرق بين الفكرة والتطبيق، كالفرق بين الأرض والسماء. يتعلم الطفل بسرعة معنى الاستحالة، ويتركَّز هدفه على الخيارات المتاحة.
كانت الدراسة في سوريا مجرد وسيلة لبلوغ الجامعة، والجامعة وسيلة للتوظيف، أو التطوُّع بالجيش،وكلها خطوات على سلم معروف، والهجرة والعمل بالخليج حلم أغلب الشباب. ولا يدخل السوري الجامعة التي يريدها، بل التي تؤهله علاماته على دخولها، ولا يجد في الجامعة دراسة عملية شيِّقة، بل كتباً سميكة ترجمت بشكل سيء منذ عقود ورتِّبت كيفما اتفق، وبين مزاجية أساتذة الجامعة وعقدهم واضطرابهم، يعرف الطالب أن الجامعة ليست أكثر من وسيلة لبلوغ الوظيفة، وليست وسيلة للفهم.
التقاعد المبكر
بعد أن يتوظَّف الشاب المتخرِّج بعمل روتيني معيَّن سنواتٍ عديدة، قد لا يستطيع بعدها القيام بعمل آخر. حتى لو امتلك الخبرة، فقد لا تسعفه الشجاعة، أو لا يملك المال الكافي للبدء بعمل خاص. وكثيراً ما كنَّا نرى المتقاعدين يعانون من اضطرابات نفسية واكتئاب وخيبة، بعد مفارقتهم عملاً اعتادوه سنين طويلة، وتغيير نمط حياتهم. يجلس الشخص في حوالي عمر الستين ليكتشف أنه بلا هوايات أو فاعلية أو قيمة، فيلجأ للتحكم بأفراد أسرته بحثاً عن سلطة زائفة، أو يكون الدين وحسن الختام حلاً لتمضية بقية هذا العمر القصير الخالي من الإثارة والفعل الخلَّاق.
قبل الثورة لم يقدم على الاستقالة أوالتقاعد المبكر، إلا بعض الأشخاص من ذوي الطموح، ليبحثوا عن فرصهم بالسفر أو العمل الخاص. فيما اختار آخرون مشاركة شخصيات النظام. وحتى من حاول الاستقلال لم يسمح لهم العمل على هواهم، وتعرَّضوا كل حين للمساءلة الأمنية.
وإذا كانت هذه الديكتاتورية والصوت الأوحد والقمع والكبت أدت في النهاية إلى الانفجار، فإنها قبل ذلك أدت إلى تخلف المجتمع اجتماعياً وثقافياً. لكن الأهم من ذلك حرمان الشباب السوري من الابداع وممارسة ما يحب واختيار عمله ووظيفته.
التقاعد المبكر فرصة!
الغريب، أن الكثيرين لم يستفيدوا من هذه الحرية!، وهذا الانفصال عن النظام!، حتى الآن، فلم يتح لهم عمل ما يريدون لأسباب أمنية واقتصادية.قد يبدو أننا لا نفصل بين العمل والإبداع، وذلك عن قصد، فلا يوجد أحد إلا ويتمنى أن يعمل في مجالٍ يحبه، ويكسب رزقه من خلاله، ولكن اعتدنا على هجرة الرسامين لأمريكا، والكتاب إلى لندن، والسياسيين المعارضين إلى فرنسا في ذلك العهد، وكأن الحياة ببلادنا مرتبطة بتراجيديا القدر التي تحدثنا عنها، ويستحيل فعل شيء خارج النمط، فقد الكثير من أرباب الأسر وظائفهم خلال سنوات الثورة، وأصبحوا عاطلين عن العمل في وضع كارثي تعيشه البلاد وكان أمامهم عدة حلول: كاللجوء أو بدء مشروع صغير لمن يملك بعض المال، أما الوظائف على اختلاف مصادرها فهي نادرة. ووضع الموظف المفصول يختلف عن وضع الشاب فقد ترك وظيفته بأقصى درجات عطائه، وفي الوقت الذي كان فيه يحصد فيه ثمار سنوات من التعب، فمن الصعب البدء من جديد، والتجريب بأعمال مختلفة مع مسؤولياته كرب أسرة.
الشباب
تتعالى الأصوات عن أسباب هجرة الشباب من سوريا. ولا بد أن الفقر، والبطالة، والاستبداد، والقصف كلها عوامل ساهمت بهذا الأمر. التقينا ببعض الشباب لنسألهم عن الموضوع:
مدينة وريف
أشار حسام – شاب موسيقي –إلى اختلاف البيئة بين المدينة والريف، وكيف يصعب القيام بكثير من الأعمال في الريف. حسام كان يعيش في دمشق، وعاد لريف حلب بعد بدء الثورة،وقام بتحويل دكان ورثه عن والده إلى مقهى صغير: «كنت أعرف أنني أترك طموحاتي، وأحلامي بعودتي إلى البلد. في دمشق، يمكن لثلاثة أشخاص إنشاء فرقة، والعزف في الحفلات، وحتى في الحدائق، أما هنا، فالعزف جريمة في هذا الوضع!.» يتساءل حسام:»هل هذا التدخل الزائد في حريات الأشخاص سبَّب رحيلهم؟ وكيف تمنع أشياء في المناطق المحررة وهي مسموحة في مناطق الاستبداد الأسدي؟.»
المنظمات
التواصل صعب مع المنظمات، والشللية منتشرة، والمال السياسي أفسد حتى العمل الفني الثوري العفوي البريء الذي كان تطوعا في بدايات الثورة.تسمع مثل هذه الجمل باستمرار.
(أ)- رسام من محافظة إدلب – كانت له مشاريعه الفنية، ويعمل في أحد المشاريع الخاصة. بعد بدء الثورة توقَّف عن العمل، وحالياً يرسم ليتسلَّى فقط. قال في حديثه لزيتون: «وصلتني عدَّة عروض من منظَّمات للعمل، ولكن دائما الأمور غير واضحة. يقولون:(اعمل معنا، وسنكوِّن فريق، ونحصل على الدعم.) لا أستطيع تضييع وقتي، وجهودي هكذا في المجهول. وقد رأيت أمام عيني كيف أن أناساً في منظمات لهم علاقات قوية، حصدوا تعب جميع العاملين في المنظمة، وأحيانا يُطردُ مؤسسُ المشروع من قبل شخص له علاقات.» ونتساءل مجدداً هل استبدلت كلمة صاحب نفوذ في زمن النظام بكلمة صاحب علاقات في زمن الثورة؟.
الوضع الأمني
يتخرج طالب الجامعة الآن ولا يعود لبلده بسبب القصف، وعدم وجود أفق لوظيفة أو عمل، ولا يستطيع البقاء بمكان جامعته في دمشق أو حلب لأن تأجيلة الجيش ستنتهي مدتها قريباً، فيذهب أغلب المتخرجين إلى تركيا كحد أدنى على أمل السفر لأبعد من ذلك.
قد يقال أن الأسباب التي ذكرناها مجرد ذرائع للهجرة، وتظهر اتكالية واضحة، ولكن من الواضح أن المشاريع، والأعمال المنجزة من الشباب بشكل فردي قليلة، فهل تتوفر البيئة المناسبة للعمل في المناطق المحررة؟ وهل المناطق المحررة تتمسَّك بأبنائها؟ أم على العكس تضيِّق عليهم وتجبرهم على الهروب؟.العقاب الذي تتعرض له المناطق المحرَّرة لا يوصف، ولكن هل يعني ذلك التخلي عنها بعد أن حصلت على حريَّتها وتركها للمجهول؟
يبدو أن اللجوء، أو بدء مشروع تجاري خاص بميزانية صغيرة، وفي وضع أمني صعب تحت القصف هما الحلان الوحيدان لغالبية المفصولين عن وظائفهم وللشباب المتخرجين الجدد.

حسين جرود