البنية القانونية للمؤسسات الخدمية ومدى الحاجة لها

زيتون – أحمد نجيب

لا يختلف اثنان على أن المؤسسات وفصل السلطات هي أساس بناء الدول، وبقدر ما تكون مؤسسات الدولة قوية ومنظمة بقدر ما ينعكس ذلك على الدولة والمجتمع، وتمكن هذه المؤسسات الناس من أن يمارسوا حقوقهم وواجباتهم بما يتوافق مع القانون، بعيداً عن الارتجالية والعشوائية والتسلط الشخصي.

ولكي تنجح أي مؤسسة في عملها لابد أن يكون لها نظاماً داخلياً يحدد عملها وينظمه ويخدم الأهداف التي وجدت لأجلها، كما ينظم علاقتها مع الآخرين أفراداً ومؤسسات، إضافة لتحدد آلية انتقال السلطات وطرقها وذلك لتستقل المؤسسة عن الأفراد القائمين عليها ويضمن استمرارها بصفة اعتبارية مستقلة.

ولتطبيق القوانين والأنظمة في المؤسسات لابد من وجود هيئات رقابية تشرف على تطبيقها من قبل الموظفين، وتعتبر هذه الهيئات هي صلب تكوين المؤسسات وضمانة لها.

وبعد خروج مناطق واسعة في سوريا عن سيطرة النظام، كان لابد من وجود مؤسسات تعمل على تنظيم المجتمع وتسعى لتأمين احتياجاته الأساسية، ومع تطور الثورة واستمرارها تطورت هذه المؤسسات وتوسع عملها، فتم إنشاء المحاكم والمنظمات المدنية والمجالس المحلية، لكن الكثير من هذه المؤسسات لم ترقى إلى المؤسساتية المطلوبة.

النظام الداخلي حبر على ورق

لعل غياب الجهة الرقابية وحب الاستئثار بالسلطة بالإضافة إلى ضعف الخبرة في العمل المؤسساتي هو السبب في عدم وجود أو تطبيق القوانين والأنظمة كما يرى الحقوقي “أحمد الخالد” في حديثه لزيتون:

“هناك ضعف كبير في تطبيق النظام الداخلي من قبل العاملين في المؤسسات والمحاكم الشرعية، فعلى سبيل المثال أغلب المحاكم الشرعية لا يوجد فيها نظام تقاضي مكتوب يرقى إلى مستوى مقبول، إذ لا بد هنا من وضع نظام للتقاضي يكون مدوناً ومعلن، حتى يعرف الخصوم حقوقهم وواجباتهم، وهذا النظام يجب أن يوضع من قبل قضاة ومختصين من ذوي الخبرة والكفاءة”

وأضاف “الخالد”:

“هناك الكثير من المؤسسات تقوم على أساس (الرجل الواحد) الذي يصطفي عدد من الموالين له والمنفذين لأوامره دون أي اعتراض، ويدَّعون بأن عملهم مؤسساتي يطبقون فيه النظام الداخلي، هذا بالإضافة إلى عدم وجود سلطة رقابية عليهم من أي جهة، فالعديد من الجمعيات والمؤسسات تعتبر أن لا سلطة عليها، ولا تسمح لأحد بالتدخل في شؤونها، وهي تعمل بجهود شخصية، وأن من أنشئ هذه المؤسسة أنشأها بجهد شخصي فهي بالتالي ملكاً خالصاً له”.

“صهيب عبيد” أحد العاملين في إحدى المنظمات المحلية قال لزيتون:

“أعمل مع منظمة محلية، لم أطلع على النظام الداخلي فيها، لكن من خلال العقد أعرف مسؤولياتي وواجباتي, كما أني عملت مع عددٍ من المؤسسات الأخرى، بالنسبة للنظام الداخلي كان دائماً موجوداً، لكن غالباً ما يوضع بشكل يناسب الأشخاص المؤسسين، أعتقد أن المجالس المحلية هي من أكثر المؤسسات التزاماً بالنظام الداخلي، فهي المسؤولة أمام الأهالي، ويحق لأي مواطن أن يعرف كيف يتم اختيار الأعضاء ومتى، وبإمكانه أن يشارك ويراقب عمل تلك المجالس، الأمر الذي لا ينطبق على أي مؤسسة أخرى”.

أنظمة وقوانين تلبي الاحتياجات

وتقول بعض المؤسسات إن النظام الداخلي وضع من أجل أن يحقق الأهداف التي أنشئت من أجلها هذه المؤسسة والعاملين فيها، ومن الطبيعي أن تصاغ تلك القوانين يما يمكنها من تحقيق غاياتها، ووجود بعض التجاوزات التي تحدث أحيانا أو بعض التقصير هو نتيجة الظروف، لكن يتم الرجوع إلى النظام الداخلي مباشرة في حال حدوث أي خلل أو مشكلة، ويتم حلها عن طريق اللوائح والأنظمة الموجودة فيه.

رئيس المجلس المحلي في مدينة بنش “فاضل حاج هاشم” يرى بأن المجلس يلتزم بالنظام الداخلي إلى حد كبير من حيث المهام والواجبات وآلية اتخاذ القرار، توجد أحياناً بعض التجاوزات على النظام الداخلي، لكنها تجاوزات آنية ومحدودة وفردية, لا تستمر طويلاً، وجود النظام الداخلي شيء أساسي في مجلس بنش، فنحن محاسبون عن أي قرار يتم اتخاذه، لذلك لابد من وجود آلية واضحة لاتخاذ القرار”.

وكان لتنسيقية مدينة بنش والتي تعد من أقدم التنسيقيات تجربة مع النظام الداخلي، مدير التنسيقية “محمد حاج قدور” قال لزيتون:

“لم يكن لدينا نظاماً داخلياً في بداية التأسيس، لكن بعد تعرض التنسيقية لعدد من المشاكل والمطبات بين الأعضاء، والتي أثرت على عملنا، كان لابد من التفكير بصياغة نظام داخلي يحدد المسؤوليات والحقوق والواجبات وآلية اتخاذ القرار وانتخاب المدير، حيث قمنا بوضع نظاماً داخلياً بعد الاطلاع على عدد من الأنظمة الداخلية لبعض المؤسسات المدنية، وصغنا نظاماً يحاكي هذه القوانين ويحقق أهداف التنسيقية ورؤيتها”.

وأضاف حاج قدور “بعد وضع النظام الداخلي أجبرنا على الالتزام به كون عدد الأعضاء قليل وكان من السهل ضبط الأمور وخلق انسجام في العمل، إذ يضم النظام الداخلي لوائح للعقوبات ونظام للرواتب وآلية انتخاب المدير والفترة الزمنية لانتهاء منصبه”.

وعن وضع المحاكم الشرعية قال المحامي “أحمد الخالد”:

“مؤخرا تم وضع بعض القوانين والأنظمة التي تنظم إلى حد ما عمل المحاكم الشرعية ونظام التقاضي، لكن الالتزام به بشكل جيد يمثل تحد آخر، بشكل عام إذا ما نظرنا إلى عمل أغلب المؤسسات في المناطق المحررة نجد أن جميعهم أو معظمهم يملكون نظام داخلي لكن يبقى الالتزام بتلك الأنظمة الأبرز المعيار الحقيقي لعمل المؤسسة”.

“أحمد الأحمد” أحد المؤسسين لـ “تجمع طلبة بنش” وهي مؤسسة ثورية قال لزيتون: “بعد تأسيس التجمع قمنا بوضع نظام داخلي يحدد أهداف التجمع ويعرفه ويحدد آلية عمله، استعنا بأحد الحقوقيين لكتابته وحاولنا الالتزام به قدر المستطاع كوننا نحن من قمنا بوضعه، لكن تغير الشخصيات التي تعاقبت على التجمع وتغير الظروف أدت إلى أن يصبح النظام الداخلي من الماضي”.

مؤسسات متميزة لأنها لم تتغير

ولأن إسقاط النظام يختلف عن إسقاط الدولة ومؤسساتها فالحفاظ على مؤسسات الدولة هو واجب وطني على الجميع أن يتحمل مسؤوليته، وبمحاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه المؤسسات التي تعتبر حقاً لكل سوري، تم الحفاظ على بعض هذه المؤسسات بعد رحيل النظام عن محافظة إدلب كما يقول المحامي “زهير عساف” الذي يرى بأن المحافظة على السجل العقاري كان أمراً جيداً، كما تمنى أن يتم تفعيل كافة المؤسسات الخدمية مثل السجل العقاري والسجل المدني.

ويضيف “عساف”:

“الإبقاء على السجل العقاري كما هو بدون تغير لوائحه الداخلية، وفر الكثير على الأهالي، وهو أعماله الأن بشكل ممتاز نظراً لأن جميع العاملين فيه هم من الموظفين السابقين ولديهم خبرة جيدة, كذلك هو الحال بالنسبة للسجل المدني الذي أبقى على نظامه وموظفيه، فأنت حينما تأتي بموظفين جدد هذا يعني أنك تبدأ من الصفر”.

“محمد السيد” أحد المواطنين المراجعين في السجل المدني قال لزيتون:

“بالنسبة لعمل السجل المدني فهو جيد لم يتغير بطريقة عمله أي شيء، سوى أن الأوراق أصبحت غير معترف عليها في مناطق النظام، قمت بتسجيل ولدي هنا في النفوس كما قمت بتسجيل زواجي في وقت سابق، ولكن لا يمكن استخدام هذه الأوراق سوى في المناطق المحررة، فلا يمكنني استخدامها خارج سوريا”.

“أبو محمد” أحد العاملين في السجل المدني وضح ما طرأ من تغيير على عمل السجل بقوله لزيتون:

“لم نتوقف عن العمل مع بدء الثورة كما تابعنا فيه بعد خروج النظام من إدلب، لكن النظام أوقف اعترافه بمؤسستنا بعد خروجه، فكل الأوراق التي نصدرها بحاجة لتوقيع من حماه والكثير من الناس لا تستطيع الذهاب إلى حماه، نحن نقوم بتحديث السجلات بناء على عقود الزواج والطلاق وشهادات الولادة والوفاة ونحفظها في سجلاتنا ونطبق نفس النظام الذي كنا نعمل عليه زمن النظام”.

رأي مركز آفاق للدراسات والاستشارات القانونية

وفي ظل هذا الواقع القانوني الصعب للمؤسسات في المناطق المحررة قال القاضي المنشق ومدير مركز آفاق للدراسات والاستشارات القانونية “زياد الباشا” لزيتون مجيباً عن رؤيته حول الحالة التنظيمية بالنسبة للمؤسسات الخدمية من حيث القوانين والأنظمة الداخلية المعمول بها في تلك المؤسسات:

“أغلب المؤسسات في المناطق المحررة تمتلك نظاما داخليا, إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في تطبيق هذه الأنظمة الداخلية على أفراد المؤسسة، فأغلب العاملين لا يتقيدون بالنظام الموضوع من قبلهم أنفسهم، أو أنهم لا يملكون الكفاءات القانونية لتحديد واجباتهم والتزاماتهم وحقوقهم التي يتمتعون بها من خلال النظام الداخلي، وتكون مرجعياتهم في تحديد ذلك قوة الشخص الذي يترأس الدائرة أو المؤسسة الخدمية.

وحول دور المركز في تقديم يد العون والمساعدة لتلك المؤسسات في إنشاء البنية القانونية التي تضمن سلامة العمل وشفافيته قال “الباشا”:

“نحن في مركز آفاق نقدم الخدمات القانونية عن طريق مركزنا الرئيسي الموجود في إدلب، عبر تقديم النصائح والإرشادات القانونية، حينما تقوم أي مؤسسة بإعداد نظام داخلي فبإمكانها أن تستعين بنا أثناء صياغة نظامها الداخلي، فنقوم بدراسة أي مؤسسة وآلية عملها قبل وضع النظام الداخلي لها، ومن ثم نقدم لها النظام الذي يناسب إطار عملها وآلية تشكيل إدارتها، ومن المفيد أن يتضمن النظام الداخلي نظام رقابي لتطبيق أحكام النظام الداخلي ومراعاة تنفيذ أحكامه”.

وعن آلية اختيار النظام المناسب للمؤسسة وتفعيل الرقابة أضاف “الباشا”:

“يمكن الاستفادة من أي نظام سابق والاستعانة به لتنظيم واقع عمل أي مؤسسة، المهم أن يتم تطوير النظام السابق بما يتناسب مع المؤسسة القائمة على أرض الواقع، وبما يلبي احتياجاتها، ويمكن تفعيل مبدأ الشفافية ضمن أي نظام داخلي من خلال إعطاء دور للرقابة الشعبية على عمل المؤسسة”.

نتائج غياب الأنظمة وعدم اتباعها

وأشار “الباشا” حول السلبيات في غياب الأنظمة والقوانين المكتوبة على عمل المؤسسات بقوله:

“غياب النظام أو اللوائح التنظيمية في أي مؤسسة هو في الواقع مضيعة للجهد والوقت، إذ أن عمل المؤسسات تحكمه الأنظمة واللوائح التنفيذية وهذا الغياب يؤدي إلى التخبط والعشوائية، وتكون المرجعية شخصاً أو فرداً، وبالتالي الانتقال من العمل المؤسساتي إلى السلطة الفردية المطلقة، فما يراه مدير المؤسسة حكماً هو صحيح”.

أما عن مساوئ غياب تلك القوانين المكتوبة عن عمل المحاكم على المجتمع فقد أكد “الباشا” إن غياب قوانين والإجراءات المدونة والمكتوبة عن عمل المحاكم يؤثر سلباً وبشكل مباشر على حياة الناس، فمن المعلوم أن نظام الإجراءات وجد لتنظيم سير عملية التقاضي، وبالتالي هو جزء من العدالة التي ينشدها الناس، وإن هذا الغياب يؤدي إلى تعدد المرجعيات واختلافها من شخص لآخر، ما يؤثر بشكل خطير على العدالة من حيث النتيجة.

وحدد “الباشا” من يمكنه وضع تلك القوانين من الأشخاص بقوله:

“إن وضع القوانين والأنظمة الداخلية بحاجة إلى أشخاص يتمتعون بالكفاءة والاختصاص من حيث الدراسة والخبرة العملية في المجالات القانونية المتعددة، ومن خلال إطلاعهم على أنظمة وقوانين أخرى، حيث تساعد هذه العوامل الأشخاص على وضع نظام داخلي لأي مؤسسة، من خلال فهمهم لأهداف المؤسسة ورؤيتها وفهم الواقع فهماً دقيقاً، البعض يقومون بنقل وتحوير نظام داخلي من مؤسسة إلى أخرى وهذا لا يؤدي الغرض المطلوب لعدم تلبيته حاجات المؤسسة المستهدفة”.

ونصح “الباشا” القائمين على المؤسسات وخاصة القضائية في المحاكم الإسلامية القائمة حاليا في المناطق المحررة بإتباع نظام قانوني محدد لها ويكون مرجعا للجميع سواء الموجودين حالياً أو لمن سيأتون من بعدهم، فلابد لكل مؤسسة لكي تنهض بالمهام التي وجدت من أجلها، ولابد لجميع العاملين من الالتزام بهذا النظام من أجل النجاح، فلا يكفي أن تمتلك المؤسسة نظاما داخليا وهذا الأمر ينطبق أيضاً على المحاكم فكثير من الأحيان لا تعتمد المحاكم على نظام داخلي يلزم القاضي قبل المتقاضي، كما أنه من المهم جداً الاعتماد على كافة الخبرات القانونية المتوفرة بين أيدينا قبل فقدانها، لأن فقدان هذه الخبرات يعني دمار المؤسسات والبلد الذي يقيم من خلال مثقفيه ومؤسساته.

يرى الكثير أن سبب تبرم الأهالي من المؤسسات الخدمية العاملة هو في عدم التزام تلك المؤسسات بقوانينها وعدم نشر تلك القوانين للعامة، بشكل يضع المواطن كشريك ومراقب لعملها، ما يشعره بالإقصاء ويزيد من الشك بعمل تلك المؤسسات ومصداقيتها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*