الأنظمة البعثية والخيارات العقيمة

leave-dalyitna-cana-nov-2011

عبد الكريم أنيس 

لعلّ التاريخ، الذي لا ينفك عن الالتصاق، بالمنطقة العربية، لا يقبل الا بالانتقام، بشقيه المعجل أو المؤجل، ليصفي حسابات الإنحيازات الخاطئة التي اختارها الشعب العربي نتيجة للجهل والخصاء السياسي، في مرحلة كان يعتقد فيها أن الخلاص والأمل والمستقبل، سيكتب على يد أحد الأنظمة الشمولية البعثية، في العراق أو سوريا.
لقد كان ذلك رهاناً خاسراً وخياراً أرعن، لشعوب تخطاها الزمان، حين تخلفت عن ركب التطوير الاجتماعي بل وممارسة الحياة السياسية وتطويرها داخلياً، لتكون طوق الخلاص الأول من الوقوع في مستنقع الخيارات الكالحة والسامة، بين الاستقرار والركون للاستسلام للطغاة والقتلة والمجرمين بأنظمتهم الجامدة والتي تجاوزها التاريخ والحضارة في اصقاع أخرى من العالم. للأسف لقد عوّل الشعب العربي البسيط آماله على التخلص من الظلم الدولي بالتصفيق والإذعان للعسف والظلم والقتل والاستبداد الداخلي وبالتالي كنا نشهد موجات غير مفهومة بالتصفيق لنظامي صدام والأسد في كل من سوريا والعراق، حتى من قبل الشعوب العربية التي هي خارج النطاق الجغرافي لتلك الأنظمة.
لقد كان الشعب العربي بغالبيته يقف بمواجهة أي مواطن عراقي يتذرع بإجرام صدام حسين، الطاغية، حين أغرق البلاد بالحروب والاعتداءات على جيرانه من الأشقاء العرب، و كانت تكال لكل معارض لهذا النظام المجرم الشتائم على عدم وطنيتهم وعدم اخلاصهم للعراق، مع رجاء ضمني خجول، أن يصمد هؤلاء أمام هول استباحة الدولة العراقية من قبل المخابرات وباقي الأجهزة الأمنية، والتي كانت تفعل الأفاعيل بكل من يفكر مجرد التفكير بالخروج عن نمط التفكير السلطوي القائل أن الدولة مزرعة يتصرف بها الطاغية حسب هواه بل ومع باقي فئات المجتمع بكافة أشكاله وأنواعه. كانت هناك أماني كاذبة، تدغدغ الشعب العربي من المحيط للخليج، تمني النفس بالصبر والنفس الطويل، ليصمد العراقيون الضحايا، على كل الدلائل والبراهين، التي كانت قرائن لا تقبل الشك، أن الوضع العراقي كان ذاهباً باتجاه طريق واحد هو الهاوية، عسى أن تتغير الحال قبل غزو العراق الوشيك، من قبل النظام الامريكي الذي لا يقل وحشية ولا بربرية عن نظام صدام ولكن بلبوس عصري شكلي، متقنع بالديموقراطية، الملفتة للانتباه.
وتتكرر اليوم هذه المصيبة على شكل شعارات وطنية صنمية ظهرت لدى فئات من السوريين والقومجيين العرب يبررون فيها وبكل وقاحة بقاء «سيد الوطن» ممثلاً برأس عصابة النظام السوري المجرم، والذي فاق اجرامه اجرام قرينه البعثي، بشقه العراقي، بعشرات المرات، والنتاج الحالي تفتت الوطن بأكمله كرمى لعيونه الزرق، التي يتشاءم العرب منها منذ صدر الجاهلية.
لم تتعلم الا القلة القليلة من الشعب العربي والتي تمكنت أن تخرج من بوتقة صناعة المواطن الدجاجة عبر مراحل صناعة الوطن المزرعة للنظام الطاغية، أن الطغيان والقهر يكسر كل المفاهيم الجميلة حتى لو حققت بعضاً من الأحلام الوردية للشعب العربي الذي كان يأمل أن يستعيد مكانته الحضارية بين الأمم فيغدو منافساً على السلم الانساني للحضارة وهذا بعض ما حققه النظام العراقي على صعيد التعليم والاهتمام بالصحة للمواطنين.

لم يتعلم باق المواطنين العرب، الذين يعيشون كما البهائم، في دول يمكن وصفها بالحظائر، أن الظلم والقهر والعسف والتجبر يكسر كل القوانين الدافعة لبناء حس الوطنية والشعور بالوفاء والالتزام للوطن، في دول تصنف على كونها مزارع مملوكة لعائلة من العوائل.

لم يحذرنا أحد، من الباحثين أو دارسي علوم الاجتماع، كمواطنين، أن هذا الانفراد بالسلطة والتسلط، يكسر كل أشكال التعاطف، مع أنظمة حكمت بقبضة من نار وحديد، وكسرت رؤوس كل المواطنين، وبدون استثناء، للعرب كما للكورد والآشور وباقي الاثنيات الطائفية في المجتمع، وللسنة وللشيعة، كما المسيحين، ولكل من تجرأ على رفع رأسه في منظومتهم الاجرامية التي قصمت كل مفهوم للشعور بالمواطنة، وبالتالي جرّت الوطن لمستنقع سحيق لا يكاد يبان له قاع من البارود المختلط مع أشلاء ضحايا العسف والظلم والقهر والتجهيل ليكون النتاج مواطنين يستنجدون بالشياطين، ليأخذوا بيدهم ويخلصونهم من (أبناء وطنهم) الذين سجلوا الديار ومقدارتها على أسماءهم وأسماء أولادهم من بعدهم وبعدها لتصبح دائرة الاقطاع والمصالح تتخذ طابع المداهن والمنافق للدوائر الأكثر ضيقاً حيث يتم توزيع مقدارت الوطن على شكل عطايا لتتشكل فئة المنتفعين الذين يدافعون عن مثيل هذه الأنظمة العميلة هي ذاتها من كسر سياج الوطنية الغالي والنفيس ويجمع من حوله اليوم كما نرى في سوريا كل أشكال المرتزقة وخصيصاً أولئك الطائفيين منهم والطامعين بمقدرات البلاد بعد انتظار هلاك واستنزاف أحد الأطراف ليقوم بالتناوب مع بقية الوحوش بتبادل الأدوار ليرهن خيرات البلاد وما يتناسب مع مصالحه ومصالح البلاد التي قدم منها.
لقد وضعنا القومجيين العرب أمام خيارين اثنين، إما القبول بالنظام الاجرامي للنظام السوري أو فليكن الخراب والفوضي باسم الدفاع عن الوطن والوطنية ويتم ذلك عبر الدمج الغبي للقائد الصنم بالنظام الذي يسيطر على كل مفصل صغير وكبير بالدولة التي يعيش فيه، ومنعوا عنا مجرد التفكير بخيارات لا تسمح بصناعة المزيد من الأصنام في المنظومة السياسية العربية الممتدة من المحيط للخليج، وعلى كافة أشكال الحكم من الملكية للجمهورية للإمارة والسلطنة وباقي المسميات الدستورية الأخرى.
ليكن ما يحدث حالياً من صراعات في سوريا، تبدو غير مرشحة للانتهاء حتى وقت قريب، ليكن هذا درساً قاسياً وصارخاً للقادم من الأجيال ليتعلموا أن يردموا هذه الفجوات الكبيرة التي صدعت مجتمعاتنا من الداخل فأصبحت بموجبها ضعيفة كل الضعف، ومكنت منها الغزاة لتصبح أرضاً يتجرأ عليها أرذال العالم من كل أرجاء المعمورة ولتصبح هذه الأرض المقدسة مسرحاً للصراعات ومسرحاً يتم فيه تجريب ما يتم بيعه من سلاح.