كيف صنعوا بيئة نابذة للمبدع؟

زيتون – بشار فستق
هل يمكن أن نقدّم أيّ شيء لحرية الإبداع في ظلّ الاستبداد الديكتاتوري، حيث تمجيد عبقرية القائد، هو الشيء الوحيد المحمود؟
أخيراً، يصل الشابّ الهارب من مدينته حمص إلى ألمانيا، بعد أن فقد آلته الموسيقيّة (الكمان) على الطريق الشاقّ الذي سار فيه أيضاً غيره من السوريّين قبل أن يصلوا لأوروبّا. احتضنته عائلة ألمانيّة وحصل على كمان كهديّة، لمّا سُمع يعزف، وأبرمت معه شركة إنتاج فنّيّ عقداً، وسجّل أسطوانته الأولى، ولم ينس أن يضع فيها بعضاً من عبق الوطن.

تتزايد في أنحاء العالم أخبار موهوبين سوريّين في مجالات شتّى، يقدمون إبداعاتهم رغم ظروفهم الحياتية الصعبة وما يحملون من هموم وآلام بلدهم. فقد عمل الفنّان «جهاد عبدو» كسائق تكسي مثلاً، في الولايات المتحدة بعد أن نجا مغادراً سورية، ها هو اليوم يشارك كممثل في أفلام سينمائية إلى جانب كبار نجوم العالم.
نسمع ونشاهد أخباراً من هذا النوع يومياً، وتدل كثرتها على أن معظم السوريّين لم تتح لهم الفرصة في بلدهم لكي يقدموا ما يعبّر عنهم في وسط صحي، ليبرزوا ويبدعوا، فما أن يفسح لهم في المجال حتّى يكونوا على الأقل أنداداً لغيرهم من البشر.

إنّ تزايد هذه الظواهر يجعلنا نتساءل عن ماهيّة ذلك الوسط المحيط الذي كان يعيش فيه هؤلاء، قبل أن ينتقلوا إلى الوسط الجديد ويبدعون فيه.

وبلا عناء كبير، سنلاحظ أنّ المجالات المتاحة، كانت تُمنح لنوع يمتلك خاصّيّة الولاء التامّ لأصنام نظام العصابة وتعليماتهم؛ ذلك أن من تركّز عليهم أضواء الإعلام الرسميّة ويمنحون الفرص والدعم، تمتلئ سجلّاتهم بإثباتات الولاء، بدءاً من التمجيد اليومي بعبقريّة القائد وابنه، وصولاً إلى كتابة التقارير بمن لا يوافق أو حتّى لا يصفّق، إلى التشبيح، بل وحمل السلاح وإطلاق النار على الشعب السوريّ.

على مدى عقود تشكّل ما يمكن تسميته بيئة حاضنة للمجرمين المخبرين الموالين، ونابذة للإبداع وللمبدعين الخلاقين غير الراضين. وقد وضعت العصابة آليّات للتعامل مع المبدعين، بشكل يُطالَبون فيه بتقديم الولاء الدوريّ (في كلّ مناسبة) وبأشكال متنوّعة، فلا يُكتفى بالتصفيق، بل يجب أن يقدم المبدع أعمالاً تشيد بالقائد وعبقريته وإنجازاته ومواقفه وأقواله وأفعاله ونهجه و…
في تلك الشروط والظروف صُنع من يقفون الآن إلى جانب نظام العصابة في الأجهزة الثقافيّة الإعلاميّة وغيرها، فمن الطبيعيّ أن نجدهم على الحواجز المنصوبة في شوارعنا، ينهبوننا ويذلوننا ويقتلوننا.
ويبرز أمامنا السؤال التالي: كيف يمكننا صنع البيئة البديلة، أي بيئة الإبداع الإنساني اللازمة لصناعة المستقبل، البيئة الجاذبة للطاقات البشريّة الخلّاقة الفنانة؟
هل يمكن أن نقدّم أيّ شيء لحرية الإبداع في ظلّ الاستبداد الديكتاتوري، حيث تمجيد عبقرية القائد، هو الشيء الوحيد المحمود؟
إن ما قامت به المجتمعات التي تقدّمت، هي أنها أزالت الديكتاتوريات، وأخذت بالديمقراطية، ووضعت الإبداع البشري الحر نصب أعينها، فصارت حرية الثقافة والفنّ مقدّسة. في البيئة النابذة للإبداع تهاجم السلطات والدة ووالد الموسيقيّ السوريّ «مالك جندلي» وتشرع في قتلهم – فقط – لأن ابنهم الفنّان لا يؤيد نظام العصابة، فيما البيئات الجاذبة (المجتمعات البشريّة المتقدّمة) تقوم بفتح صالات مسارحها ليقدّم موسيقاه المليئة بحبّ الوطن.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*