كائن بلا وطن.. كائن ضائع ومكشوف

زيتون – أسعد شلاش
المكان كائن في الكون، إليه يحيل ويحال، وبالتعين لا يبقى المكان مجرّد مكوّنات تشغل حيّزاً جغرافيّاً فقط، بل يغدو لكلّ كائن مكانه، ومكان الكائن الأوّل حيّزه الذي تخلق فيه أمناً مؤمناً وديعاً، ولأنّ وداعه كان قسريّاً وأبديّاً بكى كثيراً عندما قطعوا حبله السريّ عنه، ولما أيقن أنّه قدره وما هو بعائد إليه، لم يبقَ أمامه إلّا التلاؤم مع كونه الجديد، انجذب نحو ضوئه المنبعث من الباب أو النافذة، تلمّس أرضه حَبا عليها، غمرته الفرحة لما نجح بالانتصاب لأوّل مرّة بعد عدّة محاولات مستعيناً بالجدار، حاول مغادرة الغرفة سقط أرضاً، تألّم .. بكى.. اصطحبته أمّه إلى المطبخ إلى فناء المنزل، منعته من انتزاع وردة من حديقته.

في غفلة منها التقط حبّة توت سقطت من شجرة عتيقة، أُخذ بحلاوتها، صعد بصعوبة مع أمّه درجة.. درجة، وصل إلى العليّة.. شده صخب الشارع.

ازدادت ذخيرته المكانّية بعد أن أصبحت المدرسة مكاناً آخر من أمكنته، وبعد مناكفةٍ مع أحدهم استجار بزاوية البيت هدّأت من روعه وأخذته بعيداً مع أحلام يقظته، شيّد منازل يقطنها أطفال جميلون وهدم سواها، اعترته مشاعراً كثيرة، هرب بعضها وأمسك بالبعض قبل أن يدخل والده مبتسماً ومسائلاً عن سرّ انطوائه في (القرنة)، هرب من الإجابة، خجل من البوح بمشاعر لا يعرف حقيقتها، خلّفتها ابتسامة هادئة لعابرة يجهل عنوان بيتها،أطفأ ضوء غرفته اندسّ في فراشه، رسم صورة لغرفتها وخزائنها.
رأى فيما يراه الحالم أنّه قطف الوردة التي منعته أمّه من قطفها، والتقط على غفلة منها بعض حبّات التوت، لكنّه فوجئ بصاحبة الابتسامة الساحرة تراقبه، نغّص عليه حلمه صوت والده الذي أيقظه باكراً ليصطحبه معه إلى الحقل كما وعده.

راح يراقب قرص الشمس وهو يعود من جديد إلى المكان، تأمّل كلّ الكائنات وهي تغادر أمكنتها صباحاً في الحقل، لفحته حرارة الشمس، جلس مع والده يستظلّ بظلّ شجرة.

قال والده:
إنّ جدّه غرسها هنا منذ عشرات السنين،أدهشته روعة المكان، شمسه.. هواؤه.. أصوات العصافير، سقط فرخ صغير من عشّه، أمسك به، أعاده إلى مكانه.

مع اقتراب المساء كانت الكائنات تأوي إلى مأواها،إلى بيتها،إلى المكان الذي تكوّنت فيه روحها، وتآلفت المتناقضات من مشاعرها مع كل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، وأسست فيه ذكريات تحملها بعجرها وبجرها لتقتات عليها في القادم من أيّامها، ولتبقى خيوط الحنين في لحظات حاضر انكسر.

وجدانيّاً تشدّه إلى الأوّل من مكانه بكلّ تفاصيله،أصبح للمكان مشاعراً وأحاسيس، فلكلّ منّا ذاكرة مكانيّة تسحبه من وخز حاضره لتعود إلى مكان هنئ فيه في يوم ما، نحن نتوكّأ على المكان لنستعيد صور الزمان، وبعبارة أخرى نمكّن الزمان أو هو يمكّننا، ندقّ له أويدقّ لنا أوتاداً في الأماكن كي نعود إليه حين نشاء، نحن «نعيش تثبيت مشاعرنا» نبني صورة لمكانها، ولا يبقى المكان هنا مجرّد وجود موضوعيّ فقط، بل هو مكان ننحاز إليه بكلّ عواطفنا، نحدّد موقفاً منه سلباً أو إيجاباً بكلّ ما في الكلمات من معنى، فلا حياديّة مع المكان لأنّه تاريخنا، ويبقى البيت هو المأوى الذي نأوي إليه عندما تتعب أروحنا من صخب الأمكنة الأخرى، باعتباره المكان الأكثر أمناً وأماناً، والذي تشكّلت بين ردهاته وفي زواياه وعلى أدراجه أحلام يقظتنا، وحفظها لنا بين ثنايا روحه وحماها، فلم يعد البيت مجرّد هيكل، ويبقى حنين الكائن أبداً إلى مكانه الأوّل (فكم من منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبداً لأوّل منزل).

عادة ما تكون أغلب أحلامنا استعادة للمكان الأوّل.. للبيت، وقد بقي المكان حاضراً في قصيدة الشاعر العربيّ، وبقي يستهلّ قصائده بالوقوف على الأطلال ليسترجع أيّام حبّه الأول، وعلى مدى تاريخ الإنسان كان للمكان باعتباره البيئة الحاضنة الأثر الأهمّ في تكوين الشخصيّة البشريّة شكلاً ومضموناً.
فمن كان مكانه الصحراء يختلف عمّن كان مكانه سهلاً أخضراً أو جبلاً، أوبحراً، والحال نفسه من حيث تكوين المكان وطبيعة خطوطه وتضاريسه، فللخطوط المستقيمة وزواياها الحادّة أثر مختلف عن الخطوط المنحنية وتحدّباتها، وإذا ما انتزع الكائن من مكانه أصبح ضجراً ونزقاً.

إنّ ما يعانيه الإنسان من قلق وجوديّ هو نتيجة لمغادرته كهفه في غابته باعتبارها مكانه الأوّل، (كائن بلا مكان هو كائن ضائع ومشتّت ومكشوف).

للمكان أخلاقيّته المتعارف عليها، فما هو جائز في البيت لايجوز في الشارع، وفي حضرة المكان المقدّس يحرم الكلام وإن اقتضت الضرورة يكون همساً، حتّى الحركة والجلوس لها طقوسها، وتأخذنا متاحف التاريخ بهيبتها، تعود بنا إلى أزمنة غابرة، نتخيّل ناسها نرسم صوراً لبيوتهم وشوارعهم، نحاول مقاربة أسلوب معيشتهم،»بيت، شارع، مدرسة، حديقة، بلدة ثمّ أخرى».

هو الوطن بضياعه تضيع الأمكنة، والكائن بلا أمكنة تغدو روحه ممزّقة ومشتّتة، تحسد الطير على وطنه، كما حسده النوّاب «وقنعت يكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير، ولكن سبحانك حتّى الطير لها أوطان، وتعود إليها وأنا ما زلت أطير أطير».

كلّ الأمكنة طارئة بعد الوطن، نتحرّك فيها أجساداً ما لها إلّا (آهٍ.. آه)، هذه تشبه تلك التي كانت هنالك في الوطن، وتصبح أيّاماً مجرّد مقاربات غرباء طارئين بانتظار أن يهدّنا التعب، نطفئ النور، نلقي على الوسادة رأساً يغمض عينيه ويرتحل بأضغاث أحلامه إلى هناك.. إلى أمكنته الأولى.. يعاين شوارعه.. أهي على عهده؟
أم أنّ سنّة الكون في التغيّر قد مسّتها، أم هي قذائف وصواريخ وبراميل مَن حقدهم بارود.. مَن روحهم بارود، الذين لا يعبؤون إلّا لأحقادهم، قد أتت على المكان، هدمتْ أسقفه فلم يبقَ هنالك عليّة، بعثرت حجارة جدرانه حتّى شجرة التوت لم تسلم من الحقد، لكنّ تلك (القرّنة) التي تكوّنت فيها أحلام يقظتنا ظلّت منتصبة لتؤكّد أنّ أحلام يقظتنا هنا.. وهنا ستتكون أحلام يقظة صغارنا فهذا المكان مكاننا.
يتفقّد بيوت الأصدقاء والأحبّة، يؤنسنها قبل أن يلج بيته، يتأمّل بابه بحسرة، يدخل إليه، يقف في فنائه، من وراء دموعه يرى الأبواب يفتحها برفق، يعاين الزوايا والأسقف والنوافذ، يرتع في مرابع طفولته، تتكثّف سنينه في لحظات، ليكتب وصيته أو أمنيته، وهي أن يكون قبره في وطنه وفي بلدته وبين أحبائه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*