نظرية الصدمة لجني المكاسب من الكوارث والحروب.. «لم تتحارب دولتان يتواجد في كل منهما ماكدونالدز»

زيتون – ربيع زيتون 
في سوريا، سمحت الحرب التي شنها النظام على المناطق الخارجة عن سيطرته إلى إجرائه تغييرات وفرض سياسات جديدة، لم يكن بإمكانه القيام بها قبل الحرب، فالتهجير القسري الذي تم عبر تسويات واتفاقات تحت ضغط القصف والتهديد بالاعتقال والحصار مع السكان في مناطق حمص وريف دمشق، والتي تم بموجبها نقل عشرات الألاف من المهجرين إلى محافظة إدلب، المحافظة التي يكرهها النظام والميؤوس من ولائها له، والتي يرسم لها مسلسلاً من القصف الطويل المدى قد يصل إلى حد الإبادة، الهدف من هذا التهجير هو تنظيف مناطق واسعة من المعارضين من طوائف معينة وإيديولوجيات، بشرائح موالية للنظام، كما مكنته الحرب من قتل أعداد كبيرة من المواطنين الذي يعتبرهم غير مرغوب فيهم، كل ذلك كشف عما يمكن للحروب أن تقدمه من فوائد وفرص لم يكن ليحلم النظام بها في أيام السلم.


يتحدث كتاب “عقيدة الصدمة” لكاتبته نعومي كلاين، وترجمة نادين خوري، عما تم تبنيه من قبل أنظمة متوحشة، استغلت ظروف الكوارث والحروب لتنفيذ وتمرير خطط وقرارات على الشعوب في لحظات الصدمة ما بعد الكارثة، بشكل يضمن جعلها أنظمة أمر واقع، لا يمكن رفضها بعد الصحو من الصدمة.
يورد الكتاب حياة وأفكار “ميلتون فريدمان” عراب “رأسمالية الكوارث” الذي تتلمذ لديه رؤساء جمهوريات أميركيون، ورؤساء وزارة بريطانيون، وأقليات حاكمة في روسيا، ووزراء مال بولنديون، وطغاة من دول العالم الثالث.
ويحلل الكتاب كيف بنى فريدمان أفكاره الاقتصادية والسياسية على وقوع الكوارث الطبيعية والاجتياحات العسكرية والانقلابات، وكيف يدخر هو وفريق عمله الأفكار بانتظار حلول الكارثة تحت شعار “الخصخصة أو الموت”، ويصف كيف جعل من تشيلي أولى حقول تجاربه يوم عمل مستشاراً للديكتاتور “بينوشي” مشيراً عليه باستغلال صدمة الانقلاب أواسط السبعينيات. 
لم تسلم من أفكاره سريلانكا وبريطانيا ويوغوسلافيا، وامتدت أساليبه إلى الصين، عقب الصدمة الناتجة عن مذبحة ساحة تيانامين، واعتقال الآلاف هناك، وبلغت طروحاته دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وعلى أثر التسونامي الذي ضرب جنوب شرق اسيا، مخلفاً مئات الآلاف من الضحايا، كان نهج فريدمان الاقتصادي يدير المناقصات على الشواطئ لتحويلها منتجعات سياحية، وعقب أحداث 11 أيلول، عمدت رأسمالية الكوارث ممثلة بحكم بوش إلى تسليم زمام “الحرب على الإرهاب” لشركتي هيلبورتن وبلاك ووتر، حتى إعصار كارولاينا لم ينج من أفكار فريدمان يوم أطلق مقولته الشهيرة: “باتت معظم مدارس نيو اورلينز حطاماً، ومنازل الأطفال التي يقصدونها، هذه مأساة لكنها فرصة تتيح لنا إصلاحات جذرية في نظام التعليم”. 
هذا الكتاب “قد لا يفسر ما يحدث من كوارث طبيعية، لكنه بكل تأكيد يكشف بالوثائق والأدلة عن النيات المبيتة لما يجري في العالم من غزو وانقلابات ومجازر، وكيفية الاستفادة منها بتجاهل الانسان المنهك من تلك الكوارث مقابل تحقيق أكبر ربح للإدارات الحاكمة”.
وتقول الكاتبة في مقدمة الكتاب: “الصدم والترهيب عمليتان تستتبعان مخاوفاً ومخاطراً ودماراً يتعذر على الشعب بشكل عام، وعلى عناصر أو قطاعات محددة من المجتمع المهدد أو على قيادة هذا المجتمع أن تفقهها، كذلك يمكن العناصر الطبيعية على غرار الأعاصير والزلازل والفيضانات والحرائق المسعورة والمجاعة والمرض، أن تصدم البشر وتزرع الرهبة في نفوسهم”.
وتؤكد على ذلك بما قاله “ريتشارد بايكر” ابن نيو اورلينز وعضو الكونغرس الجمهوري “ها قد حللنا مشكلة الإسكان الشعبي في نيو أورلينز، لم نستطع أن نفعل ذلك نحن، لكن الله استطاع”، كما قال “جوزيف كانيزارو” أحد أغنى المقاولين في نيو أورلينز بمعنى مشابه “أظن أننا أمام صفحة بيضاء تخولنا البدء من جديد، ومع هذه الصفحة البيضاء تأتي فرص كبيرة جداً”.
وُصفت هذه الطريقة في استغلال الكوارث باسم “رأسمالية الكوارث” وحدد منظري هذه الطريقة الفترة التي يمكن أن تقوم بها الإدارات في استغلال الكوارث بما لا تتجاوز التسعة أشهر، وضرورة التصرف في فرض الأنظمة الجديدة بسرعة عند وقوع الأزمات، وفي حال لم تنتهز الفرصة، فستكون قد ضاعت وربما تكون الفرصة الوحيدة.
استغل فريدمان الصدمات والأزمات حين عمل مستشاراً لدى الدكتاتور التشيلي بينوشي بعد انقلابه، فقد نصح فريدمان بينوشي بفرض تحول خاطف في النظام الاقتصادي عن طريق تخفيض الضرائب وتعزيز التجارة الحرة وخصخصة القطاعات الخدماتية وخفض الانفاق الاجتماعي والحد من تدخل الحكومة وخرقها للنظام، ورأى التشيليون في نهاية المطاف تحول مدارسهم الرسمية، إلى مدارس خاصة ممولة بالقسائم النقدية الكافلة، عرف ذلك التحول الجذري في العالم “ثورة مدرسة شيكاغو”.
وتثير إجراءات الصدمة بحسب فريدمان بسرعتها وفجائيتها ردود فعل نفسية في الأوساط الشعبية، وستسهل بالتالي عملية التكيَّف، واصفاً إياه “المعالجة بالصدمة الاقتصادية”.
وبرزت طريقة المعالجة بالصدمة في العراق لكن بشكل أعنف، فبعد بداية الحرب التي صممها أصحاب عقيدة الصدم والترهيب العسكرية، بحيث تعمل على التحكم في إرادة العدو وبصيرته وإدراكه، فتجعله عاجزاً بكل معنى الكلمة على الفعل ورد الفعل، لتأتي بعدها المعالجة الجذرية بالصدمة الاقتصادية، التي فُرضت بينما كان البلد لا يزال تحت لهيب النار، خصخصة شاملة، تجارة كاملة الحرية، وضريبة ثابتة بنسبة 15%، وتقليص كبير لدور الحكومة، ما دفع وزير التجارة العراقي “علي عبد الأمير علاوي” للاحتجاج على ذلك النظام بقوله: “إن العراقيين قد سئموا من جعلهم حقلاً للتجارب، إذ أن النظام قد اختبر ما يكفي من الصدمات، وليس هناك حاجة إلى المعالجة بالصدمة الاقتصادية”.
بعد وقوع كارثة التسونامي في سريلانكا في عام 2004، توافد مستثمرون أجانب ومقرضون دوليون إلى البلد لاستغلال جو الهلع، وتسليم الخط الساحلي الجميل برمته إلى متعهدين لم يتأخروا لحظة واحدة في بناء منتجعات ضخمة، مانعين ألاف الأشخاص الذين يعتاشون من صيد السمك، من إعادة بناء قراهم على مقربة من الشاطئ، وأعلنت الحكومة السريلانكية أنه “من خلال ضربة عنيفة للقدر، قدمت الطبيعة إلى سريلانكا فرصة فريدة من نوعها، وسيولد من رحم هذه المأساة، مقصد سياحي ذو مستوى عالمي” وهو ذات المعنى الذي تحدث عنه سابقا فريدمان عن الصفحات البيضاء لدى إعصار أورلينز.

إعادة الإعمار
لا يرغب الأهالي الناجين من الكوارث والحروب في الصفحات البيضاء، بل يريدون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والبدء بترميم الأشياء التي لم تدمر، كما يريدون أن يكرروا تأكيد ارتباطهم بالأماكن التي بلورت شخصيتهم وترعرعوا فيها.
ومن هنا يتوجب على السوريين أن يتنبهوا إلى ما يحاك لهم من خسائر قد لا تعوض مستقبلاً، وتنازلات لا يمكن استعادتها، وأن تكون السنوات الست السابقة قد أزالت آثار الصدمة لمستوى لا يمكن معه أن تمر مشاريع لا يرغبون بها.
وككل المصابين من الكوارث قالت إحدى الناجيات: “أشعر وأنا أعيد بناء المدينة بأنني أعيد بناء نفسي”، لكن المستثمرون لا يأبهون بإصلاح ما كان سابقاً، ففي العراق وسريلانكا وأورلينز، بدأت العملية التي حملت العنوان المزيف “إعادة الإعمار” بإنهاء ما بدأت به الكارثة، أي محو ما بقي من المجموعات السكانية والمجمعات المتجذرة، ومن ثم الإسراع في استبدالها بنوع شبيه بمستوطنات القدس الجديدة، وذلك كله قبل أن يتمكن ضحايا الحرب أو الكوارث الطبيعية من الاتحاد مجدداً والمطالبة باسترجاع ما كان يوماً ملكا لهم.
وتروي الكاتبة قصة “مايك باتلز” صاحب الشركة الأمنية العديمة الشهرة والخبرة الأمريكية، الذي قال بعدما حقق ربحاً قاربت قيمته على مئة مليون دولار أميركي، وذلك بعد توقيع عقود عمل مع الحكومة الأمريكية: “قدم الخوف والفوضى إلينا فرصةً ذهبيةً”.
ومن استغلال الكوارث الطبيعية والحروب، إلى صناعتها، ففي الأرجنتين في السبعينيات، شكل الاختفاء المفاجئ لثلاثين ألف شخص على يد الطغمة العسكرية جزءاً من عملية فرض سياسات مدرسة شيكاغو، مثل أعمال الرعب التي لازمت التحول الاقتصادي في التشيلي، وفي الصين كانت الصدمة التي رافقت اعتقال عشرات الألاف من الناس بعد مجزرة ساحة تيانامين، هي ما سمحت للحزب الشيوعي كي يقوم بتحويل معظم البلاد إلى منطقة تصدير واسعة النطاق اكتظت بالعمال الذين غلبهم الرعب الشديد فمنعهم من المطالبة بحقوقهم.

الخصخصة أو الموت 
في يوغسلافيا أسفر هجوم قوات حلف شمالي الأطلسي الناتو على بلغراد في عام 1999، عن ظروف مناسبة لخصخصة سريعة في يوغوسلافيا السابقة، وهو هدف سابق لنشوب الحرب، رغم أن الاقتصاد لم يكن سبباً لنشوب الحرب، إلا أنه كان في كل مرة يتم استغلال الصدمات الجماعية الكبرى من أجل وضع الأسس اللازمة للمعالجة بالصدمة الاقتصادية.
أزمة الدين التي قادت كلاً من القارتين الأفريقية وأمريكا اللاتينية إلى خيار من اثنين “إما الخصخصة أو الموت” بحسب تعبير مدير سابق في صندوق النقد الدولي، رزحت بعدها تحت فرط التضخم وعبء الديون الكبير، الذين جعلاها غير قادرة على رفض الطلبات الكثيرة التي ترافقت مع القروض الخارجية، وافقت حكومات القارتين على المعالجة بالصدمة على أمل أن تنجها تلك المعالجة من الوقوع في كارثة أكبر.
هكذا يعمل مذهب الصدمة تضع الكارثة الأصلية سواء أكانت انقلاباً أم هجوماً إرهابياً أم انهياراً للسوق أم حرباً أم تسونامي أم إعصاراً، جميع السكان في حالة من الصدمة الجماعية، وتخدم القنابل المتساقطة والعنف المتفجر والرياح العاتية كلها لتطويع مجمل المجتمعات، تماماً كما تطوع الموسيقى الصاخبة والضربات، السجناء في زنزانة التعذيب، وعلى غرار السجناء المرعوبين الذين يكشفون عن أسماء رفاقهم ويتنكرون لدينهم ومعتقداتهم، كذلك تقوم المجتمعات المصدومة بالتنازل عن أمور كانت تدافع عنها بشراسة في أوضاع مغايرة.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*