قراءة الذات في طاولة النرد

زيتون – أحمد فرج
لم يكن يتخيل أن يتحول صديقه ذو الخامسة والخمسون عاماً، المتزن والهادئ، صاحب الرصانة والهيبة، إلى ذلك الشخص التي تتطاير منه مفردات الغضب والشتائم، ولسبب يعتبره تافهاً وصغيراً كلعبة “طاولة الزهر”، وهو ما دفعه ليراقب اللعبة بشكل جدي لتهدئة صديقه.


ما أن جامل صديقه بلعب بعض “البرتيات” لتمييع وقت فراغ سقيم، حتى دبت فيه روح المقامرة، وشده الحماس بعد اعجازات قدمها له النرد، حولته إلى منتصر بنشوة الفاتحين حين أخذ بعض الفوز من رجل أمضى سنيناً فيها، هذا حال إياد رمضان، الذي وقع بغرام النرد وخصص له وقتاً يومياً لممارسة هذه اللعبة مع أصدقائه وغير أصدقائه في المقهى القريب منه في مدينة غازي عينتاب التركية.
لا يخلو جوارها من الشاي والقهوة والمتة، والكثير من الأحاديث والجدال والمرح، قادرة على خلق أجواء من المودة والتفاهم والانسجام، رغم تشكيك اللاعبين البريء لبعضهم البعض بتحالف الحظ معهم.

من المؤكد أن لعبة الطاولة المنتشرة على رقعة كبيرة في المشرق العربي ومغربه وبلاد فارس وتركيا، لعبة مغرقة بالقدم وذات شعبية كبيرة، إذ يحتوي متحف حلب على حجر نرد يعود تاريخه لثلاثة آلاف عام، لم يعرف أصل اللعبة على وجه الدقة، كما لم يعرف تاريخ نشأتها، لكن الألفاظ التي ما زال حتى اليوم ينطق بها اللاعبون أسماء أرقامها، هي ما بين الكردية والتركية، فيما يؤكد آخرون أنها أسماء سنسكريتية، أيا يكن أصلها فهي من القوة أن اللاعبين لا يقبلون ذكر الأرقام بغير تلك الألفاظ.
وتتكون اللعبة من 30 حجراً مقسما ًعلى الطرفين، تصطف على صندوق خشبي مطعم بقطع ملونة وبأشكال هندسية، تحدد الخانات الاثنتي عشرة لكل لاعب، وهي موحدة في جميع ألعابها المتنوعة، والتي من أشهرها المحبوسة والمغربية والـ 31، لكنها بشكل عام تعتمد على فكرة نقل وتحريك القطع، دون السماح للخصم بعرقلتك مع محاولة عرقلته في نقل أحجاره، بهدف الحصول على النقاط الأكثر والأعلى.
شعبية فرضت مسابقات دولية
لا تقتصر على جنس أو عمر دون غيره، يلعبها الكبار والصغار من كلا الجنسين، ورغم ما تعارف عليها من أنها لعبة المتقاعدين وكبار السن، إلا أنها شهدت في السنوات الأخيرة إقبالاً كبيراً لدى الشباب السوري، بعدما غادرتهم جاذبية وسائل التواصل الاجتماعي، ولدغتهم ألعاب التكنولوجيا، فهربوا من وحدتهم الإلكترونية إلى مشاركة بشر حقيقيين في ألعاب ممتعة فيها تواصل تام، فيها تكتمل الجلسات، وتبدأ الأحاديث، ومن خلالها يجتمع الأصدقاء تدفعهم لذة المشاركة في حرب الطاولة التي صار لها مسابقات تقام وبطولات تعقد على مستوى الدول كبطولة “طاولة الزهر” أو “النرد” العالمية في موناكو التي جرت في آب 2015، وفاز بها المهندس الإسرائيلي “شمعون كجان” ذو 73 عام، كما نظمت مدينة أبو ظبي بطولة في شهر حزيران من العام ذاته، ضمت 60 لاعباً، رصدت فيها جائزة 100 ألف درهم للفائز.
لاقت اللعبة مؤخراً رواجاً بين صفوف النساء ولا سيما الشابات، اللواتي ما زلن يتجنبن لعبها في العلن، ويمارسنها في البيوت لتجنب الانتقادات، بهدف تمضية أوقات أكثر متعة، لا سيما أثناء غياب الأطفال الذين يشوشون على اللعبة.
ويتشابه أغلب المغرمين بهذه اللعبة في إرجاع الفوز لحنكتهم وذكائهم فيما يرجعون خسارتهم لحظهم العاثر، ومحاربة القدر له، فيما حالف الحظ الخصم الفائز، ولولاه لما انتصر.

كشف الذات وطبيعة اللاعبين
فيها تنعكس طبيعة اللاعب، ويمكن أن تقرأ طباعه وميوله من طريقة لعبه والمفردات التي يستعملها، فهي في ما تفرضه من حماس وغضب وترقب وأمل وخوف من غامض الغيب الذي سيأتي به النرد، تترك اللاعبين عراة أمام حقيقتهم الأولى، فروح الأبوة تتجلى عند البعض حين يشير إلى الخصم إلى حركة جيدة له، كما تظهر لؤم النفس في استعمال مفردات التشفي والسخرية، ولا تخلو من صور الغضب في إغلاق الطاولة بعد عدة برتيات لخاسر كايده النرد، لكنها مجال لكسب المهارات النفسية وضبط النفس، فمن المؤكد أن الرابح سيخسر، ما يعلمه التواضع في انتصاره، كذلك الحال للخاسر الذي لا بد أن يواتيه النرد في وقت ما، فلا يركن للقنوط، وقد تحمل اللعبة الواحدة تقلبات كثيرة ما بين النصر والخسارة، لتبدو النتائج غالباً قريبة من بعضها.
لها تأثير المقامرة، فهي تغري النفس بالفوز الممكن والسهل، رمية قد تدخلك إلى قلعة الخصم لتفرض عليه بؤسه، وليشهد على عجزه التام، ورمية أخرى قد تدمر كل ما بنيته من تعب وتفكير، في احتمالات فلكية لا يمكن لعقل أن يتوقعها، وهي مع هذا لا تعتمد في كل شيء على النرد وحظ اللاعب، بل تحتاج إلى الكثير من الحنكة والذكاء والتركيز في اختيار الأماكن التي سترتب فيها أحجارك، مع استقراء المستقبل والتخطيط لما سيؤول إليه الوضع في مرحلة ما.

وتتطلب هذه اللعبة بديهة حاضرة وسرعة في تنفيذ نقل الأحجار، فالبطء مقتلها، ولن يجد اللاعب الذي يستغرق وقتاً طويلاً في نقل قطعه من يشاركه باللعب، وهو الأمر الذي يمنحها حيوية وديناميكية، ويضفي عليها المرح والنشاط.

فيها طرق يعرفها أهل الخبرة، وتقترب في كثير من جوانبها من لعبة الشطرنج، إلا في جانبها الغيبي والمجهول الذي سيأتي به النرد، فيها تظهر روح الهجوم والدفاع والمغامرة والحرص والتردد والاندفاع، في حديث لا يتوقف مع النرد الخائن والمحبب، مترافقا مع ضحكات عالية للمنتصر وصمت أجوف للمهزوم.
وهي قادرة على تعليمك الحكمة والتفكير في نواحي الحياة، فعدم كشف خططك للخصم وإعطاء الخصم الفرصة للخطأ، دون أن تتدخل لتقاطعه هي إحدى أهم العبر، فكل كلمة تنطقها سيستفيد منها الخصم لا محالة، إلا ما تمارسه عليه من ضغوط نفسية تضغط محاكمته المنطقية وتعمي عيناه من الغيظ.

وثمة محاكاة لافتة يجريها بعض الفلاسفة لإعطاء هذه اللعبة بعدا فلسفياً، إذ يرونها تعبر عن المذهب “الجبرية” التي تقول بعدم وجود دور للإنسان في اختياراته، ويمثله في هذا الاستسلام للقدر رميه للنرد على رقعة الطاولة التي تشابه الحياة، كما يعطون لألوان الأحجار السوداء والبيضاء ما يمثله ثنائية الليل والنهار والخير والشر، عدم تعقيدها يشابه بساطة اليقين والإيمان بالقضاء والقدر، وهو ما تناقضه لعبة الشطرنج تماماً، والتي تجسد مذهب الحرية وأن دور الإنسان في تحديد خياراته هو دور رئيسي فلا مجال للحظ أو القدر.
ما يزال إياد يرتاد المقهى ليمارس عادته اليومية في لعبة الطاولة، والتي قدمت له حلاً لما كان يعانيه من وحدة وانطواء ولينخرط في تفاعل بشري أعاد إليه الثقة والألفة والوجود.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*