النصوح.. صندوق الذكريات وحارس الغياب

زيتون – رائد رزوق 

من داخل إحدى الجرار الفخارية، كان أحمد يقرأ ولأول مرة بعض ما يتذكره من سور القرآن قصيرة، شاتماً تلك الساعة التي دخل فيها إلى القبو، إذ لم يكن لديه شك، في إعدامه على وجه السرعة في حال العثور عليه من قبل قوات الأمن التي اقتحمت المنزل الذي اختاره حينها كمخبأ.

يلقبونه بأبي قيس، صاحب أشهر صالون حلاقة في المدينة، باسم اختاره بعناية تدل على ميول وثقافة، “عشتار” آلهة الحب والولادة والربيع، ورغم أنه في العقد الرابع من عمره، إلا أن له روح مراهق نزق، لم تمنعه خيوط الشيب في رأسه من ملاحقة قصص الحب التي كانت تميته وتحييه، زاد من هشاشته في مواجهة العواطف ما يملكه من قلب رقيق، وروح غضة تنهار بسرعة أمام أي مشهد جميل، أو كلمة مؤثرة، أو موقف لافت.

أنيق كدبلوماسي إلى حد يبعث على الغرابة، ذو هيبة ووقار حين يكون متمترساً، لكنه أرعن ومجنون حين يستشيط غضباً، وماجن عربيد حين يصدعه الهوى، نديم نادر إن رغب، وصديق دافئ، وعدو موجع، ولسان سليط، ذو بديهة حاضرة في المناكدات، ونكتة خفيفة، فيه مرحُ طفولي طاغ، نصفه أنثى، ونصفه ذئب، وثلاثة أرباعه ملاك، نصاب محترف حين تعضه الحاجة، وزنديق مجدف إن تمرد، أليف كقط إن أحب، كريم مسرف لدرجة التبذير، وبخيل كأرملة مقترة.

يقول عنه صديقه اللدود أسعد كنجو: “مغامر مقامر لن يئد جموحك بأي حذر، ولن يفلت يدك على طريق الحلم، مغرم بلهيب النار ولو أحرقه، يهين بؤس الحياة حين يفرح بشكل العشب على الصخر، لا يقدر على العيش بلا حب، يبحث عن معشوقة ولو بين ركام الحرب، وان لم يجد صنع واحدة من تمر المعونات ويعشقها”.

كما يصفه منهل باريش وهو لدود آخر له: “خفيف وطري على القلب، قلبه وبيته مأوى للمشردين والهاربين من عسف زوجاتهم، لا أعرف رجلاً تحمل مزاج أصحابه وتقلباتهم أكثر منه”.

أفضل من يصنع من لا شيء وليمة، لا يمنعه غياب الأساسيات عن مطبخه ليعد باهتمام بالغ مائدة معتبرة لضيوفه، فهو يضفي على البساطة جمالا ولذة، ويعطي للنكهات البسيطة معنىً بعيداً تكاد تشعر أنك تتذوقها لأول مرة.

له حضور في كل اجتماع لرفاقه آنى كانوا، يضغط على ذاكرتهم بحيويته، حين يبادلونه المقاطع الصوتية، وصور السهرات لكي يغيظونه، يرد بحربائية عالية من جعل التراب الأحمر وحبة البندورة انتجتها له شتلة زرعها منذ برهة، خسارات تتأكل أرواحهم الغريبة، ليقلب الطاولة عليهم، مع شتائم تطال شقيقاتهم بالاسم، ومشاريع نسب ومصاهرة جديدة على وشك أن يقوم بها، خوفاً على النساء من برد الشتاء الطويل.

لا يستقر على مبدأ، أفعواني متلون، زئبقي مرن حسب الحاجة، فمن يأمن جانبه اليوم لا بد وأن ينقلب عليه في الغد، ذلك لدواع الضرورة ولزوم الحديث، الذي قد يتطور أحيانا إلى مواقف مؤقتة، عجزه عن مغادرة البلاد قد يسميه وطنية، وعلاقاته المشبوهة يرجعها إلى الإنسانية الصرفة، أعداؤه بالأمس أصدقاؤه اليوم، لكن في النهاية ليس هناك أعداء حقيقيون، لديه مروحة واسعة من الأصدقاء، يخال كل منهم أنه المقرب إليه، مع قدرة عالية على تنسيق وقته بينهم وترتيبهم بحسب حاجاته المختلفة.

ممسوس بالجمال، يراه في مقطع شعر عميق، أو أغنية عراقية ذو معنى وحزن، أو رائحة عطر، أو امرأة أو طقس ما، لديه تسجيلات قديمة ما زال يحتفظ بها على أشرطة كاسيت “سوني” لمطربين لم يسمع بهم أحد، لكنه لا يملك مسجلة، ولديه أرقى الملابس لكن بدون خزانة.

تنقل بين منازل عدة، لم يمتلك أيا منها، لكنه اخذ روحها وتركها خراباً بعدما أعطاها قدسية ارتبطت بذكرياته التي هي كل ثروته وكنزه المكنون، من كروم صخرية بجانب المدينة، إلى بيوت قديمة مهجورة، إلى زاوية في حارة شعبية، وكرسي في غرفة صديق، شارع مرتبط بثورة، وقبو مرتبط بموت، بعين فنان وذوق شاعر وحساسية مبدع، يخلق أحمد من تلك الأماكن أيقونات لدى معارفه، يضيق تفكيرهم حين يمرون بها عمن سواه.

لا حرج إن انكشف في موقف ما، ابتسامة الاعتذار جاهزة لديه، مكنته وما زالت من تجاوز تعقيدات الصحبة الطرف، وبضحكته الخجولة أحياناً القادرة على اذابة الحجر، يعاود هفواته بكل بساطة وثقة، فلا ثقة لديه بالحياة غدا، همه اليوم والساعة، وليأتي الطوفان غدا، “دعونا نعش اليوم ولنمت غدا”.

كلماته البذيئة والسوقية صارت مألوفة ومستعملة ومحفوظة الحقوق له، لها طرق استعمال وتوقيت يصعب على غير الأصدقاء المخلصين إدراكها، هذه المفردات التي كان يتم تجنبها أمام الأطفال والغرباء صارت حديثاً عادياً لا يُلتفت إليه مع أحمد، كونها أخذت نبرة صوت وحالة ود انفصلت عن تاريخا البذيء، وأصبحت مفردات هي أقرب للغزل والحب.

محبوب أبدا، لا يمكنك معاداته أكثر من يوم، يبث إدمانك فيه بلا وعي، تجد نفسك على بابه في ساعات الفجر، وبأخر الليل، ويُفضَل أن تجلب قهوتك معك قبل أن يقنعك بأن النعناع مشروب الفجر الرائع.

حين كنا في السادسة من عمرنا، كان يمسك بثوبي من الخلف، رغبة منا بأن لا نفترق، ما تزال ثيابي حتى اليوم مشدودة من ذلك المكان، تحمل مكالماتنا الأمنيات باللقاء، خائفين أن يمضي العمر ولا نلتقي.

حين اقتحمت قوات الجيش برفقة الأمن والشبيحة مدينة سراقب في  11 آب 2011  لم تسعف ذاكرة أحمد في ذلك الصباح اللعين، من استحضار أماكن للاختباء سوى مقر البعثة الإيطالية للآثار في الحي ذاته، وهو منزل واسع فيه أكثر من عشر غرف ملأى بكميات كبيرة من قطع الفخار المكسر وبعض الجرار المجمعة، ولكون المقر مجاوراً لمنزله، ناهيك عن شدة الرعب والفزع الذي ساد المدينة في ذلك الوقت، دخل أحمد إلى المقر واختبأ في أحد الأقبية الموجودة فيه ظناً منه أنه في أمان تام.

تم اقتحام كامل غرف المنزل وتكسير الأبواب وتفتيشها، حتى وصل العناصر إلى القبو، وراحوا يركلونه بكل ما أوتوا من قوة، لكن الباب الصغير والمنخفض استعصى عليهم فقرروا تركه.

هذه الحادثة ليست جديدة عليه، فقد اعتاد على أن تحصره الحياة في زاوية أضيق من الجرة، لتبلغ روحه الحلقوم، ثم تتركه سعيدا ببقائه على قيد الحياة مستمتعا بباقي يومه كما اعتاد، وهو ما يمكن أن يكون سبب عشقه للحياة بهذا الجنون.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*