بإرادته تجاوز إعاقته.. صانع البوابير في بنش

زيتون – أسعد الأسعد
على كرسي قصير، بمحله المقطوع من منزله، والذي طغى اللون الأسود على جدرانه وأرضه، يجلس “أبو إسماعيل” الرجل الخمسيني في مدينة بنش، بقدمين صغيرتين مشلولتين، توقف نموهما منذ أن كان صغيراً، ليمارس عمله اليومي في صيانة وتصنيع بوابير الكاز ومدافئ الديزل، غير عابئ بإعاقته.


كان أول من تخصص في بنش بإصلاح وتصنيع بوابير الكاز، قصده كل أهالي المدينة، قبل أن تنتشر مواقد الغاز وتتراجع نسبة زبائنه، لتعود مهنة أبو إسماعيل للازدهار بعد الثورة السورية، وضعف توافر مادة الغاز وغلائها، وعودة الأهالي لاستعمال بوابيرهم القديمة.
في فترة انتشار مواقد الغاز وتراجع الطلب على البوابير، لم يقف أبو إسماعيل مكتوف اليدين أمام التطور، بل طور هو أيضاً محله ووسع نشاطه، ليضيف إلى عمله صيانة مدافئ الديزل، ليستمر بجني رزقه من محله، فمعظم الأهالي يستعملون هذا النوع من المدافئ.
أبو إسماعيل الذي طور صناعة البابور من الشكل القديم الصغير، ذو اللون الأصفر المصنوع من النحاس، ذو السعر المرتفع، إلى شكل جديد، إذ جعله على شكل موقد الغاز برؤوس أربع، وبسعر مناسب أكثر، مع استقرار وسهولة في التشغيل، مع خزان أوسع للوقود وبوزن أخف، وفر هذا البابور الجديد على نساء البيوت الكثير من التعب والجهد، ما زاد الطلب عليه.


يروي أبو إسماعيل لزيتون عن حياته وعمله قائلاً: “ولدت بقدمين مشلولتين، وبعد تعلمي القراءة والكتابة في مدرسة مصطفى عموري بمدينة بنش، وضعني والدي لتعلم مهنة صيانة البوابير في أحد محال الصيانة بمدينة إدلب، ومن هنا تعلمت مهنتي، عملت حتى سن الخامسة عشر في مدينة إدلب، ثم تزوجت وافتتحت محلي الخاص الموجود ضمن منزلي، لأعيش منه وأعيل أسرتي”.
أبو اسماعيل أب لثمانية أولاد، ثلاثة شبان وخمس بنات، قام بتعليم أولاده هذه الحرفة، جميعهم يعملون معه في ذات المحل، لكل منهم اختصاص، “إسماعيل” مختص بصناعة البوابير وصيانتها، و”أحمد” مختص بصيانة المدافئ التي تعمل على الديزل، أما “قاسم” فهو الذي يقوم بمرافقة أبيه لجلب المواد الأولية لصنع ما يبيعونه في دكانهم من السوق، ويقوم بمساعدة أخويه في عملهما.
استطاع أبو إسماعيل بالرغم من إعاقته أن يبني عائلته وعمله بأصعب الظروف، وها هو اليوم يعود مجدداً مقصداً لمعظم أهالي مدينة بنش، الذين يبادلونه نظرة الاحترام والتقدير والمحبة، ويرون فيه الرجل الذي لم يستكن لإعاقته بل ناضل ليعيش بشرف وكرامة.
جار أبو إسماعيل وصديقه “عبد الله شقير” صاحب دكان سمانة في الحي ذاته وصف أبو إسماعيل لزيتون بقوله: “رغم إعاقته إلا أنه مضى بحياته مثل أي رجل معافى، ولربما أفضل من كثير من الأصحاء، واستطاع أن يصل إلى هدفه وبناء أسرته، بينما لم يصل الكثير من الأصحاء لما وصل له”.
وأضاف “شقير”: “خفيف الظل، له وجه بشوش والضحكة لا تفارقه، حين تذهب لإصلاح شيء عنده تألف جلسته، ويجذبك بحديثه وحضوره، فدائماً ما يردد المواويل الشعبية، وإطلاق الحزازير والألغاز الطريفة”.
بالإرادة والتصميم والصبر تستطيع صنع المستحيل، فما يأخذه الله منك يضاعفه في أمر آخر فيك، ولرب إعاقة كانت سبباً في نبوغ صاحبها، ودافعاً له للمضي إلى أبعد ما يستطيع إليه الأصحاء الوصول.
يواصل أبو إسماعيل صناعة وصيانة البوابير في محله الصغير، فيما تغرق سوريا بشحّار حربها، دون أن تجد من يصون أهلها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*