خطوبة بطعم الدم.. وفرح تحول إلى مأتم

زيتون – ياسمين جاني
كانت “رولا” تحتفل بخطوبتها، وكل الأحبة حولها، جاؤوا يشاركونها فرحها، كما هي عادة السوريين، أملاً في أن يعم الفرح أجواء المكان، وينشر أجنحته على الحاضرين والغائبين، ويطغى على الحزن والألم الذي يعيشونه منذ عدة سنوات، ولو لساعات فقط.
حاولت رولا وعائلتها التمرد على الأجواء التي فرضها عليهم نظام الأسد، فأعلنوا العصيان، واتفقوا على الفرح، إلا أن الأسد وطائراته استكثروا على رولا وعائلتها أن يشعروا بسعادة مؤقتة، لن تزيد في الأصل عن ساعة أو اثنتين، فهي لم تكن حتى حفلة خطوبة.
أُعلنت خطوبة رولا، فاتفقت نساء عائلة “هلال” على الاجتماع في أحد منازل العائلة، لتهنئة العروس وإشعارها بالسعادة كأي عروس سواها، فاصطحبن أطفالهن وذهبن كما اتفقن، ولكن طائرات النظام وروسيا كانت بانتظارهن، تتربّص بهن وكأنهن هدف عسكري خطير، كان ذنبهن أنهن حاولن إيجاد فسحة من السعادة، وممارسة حياة شبه طبيعية.
عاجلتهن الطائرات بصاروخ، فكان الموت أسرع إليهن من الفرح، وتحولت الأيدي التي كانت تنوي التصفيق، والشفاه التي كانت تتحضر للغناء إلى قطع متناثرة، وبدل أن تنشر الفرح على محيطها كما كانت الغاية من الاحتفال، انتشرت الأشلاء والشظايا في كامل الحي، ووزعت الحزن والألم على مدينة جسر الشغور بأكملها.
كان من المفروض أن ترتدي “رولا هلال” بعد فترةٍ ثوبها الأبيض، وتُزفّ إلى منزلها الجديد، لتبدأ حياةً جديدة، إلا أنها ارتدت كفنها الأبيض، وشُيّعت أشلاؤها إلى قبرها، وكل نسوة العائلة وأطفالها الذين جاؤوا ليشاركوا رولا فرحها، شاركوها مصيرها، وأُخرجوا في تشييع جماعي، بدلاً عن الزفة التي كانوا سيحضرونها لاحقاً، لعريس بات مصيره مجهولاً، باستثناء “فاديا”، التي ذهبت لغرفة أخرى قبل سقوط الصاروخ بدقائق.
“فاديا هلال” الناجية الوحيدة من تلك المجزرة، والتي حالفها الحظ من وجهة نظر الجميع باستثنائها، فما تعيشه من ألم فقدانها لأخواتها وأقاربها من النساء والأطفال الذين كانوا متواجدين في ذلك اليوم، وأصبحوا ذكرى، وما يدور في خيالها وذاكرتها من هول ما شاهدته حينها، يجعلها ترى عكس ما يراه الآخرون.
تقبع فاديا منذ ذلك اليوم في محراب حزنها، وتبكي بحرقة كلما تذكرت أخواتها، وتعتبر أنها على قيد الحياة بجسدها فقط، أما روحها فقد ماتت مع أفراد عائلتها، وتقول أن شهر كانون الأول هو أصعب شهر من بين أشهر السنة بالنسبة لها، فهو يعيد إليها شريط الذكريات المؤلمة، وكأن المجزرة تتجدد فيه كل عام، ففيه قتلت طائرات الأسد وروسيا أحبّتها.
وتضيف فاديا:

“على الرغم من أنهم لا يغيبون عن ذاكرتي أبداً، إلا أنه كلما اقتربت ذكرى استشهادهم، تتفتح جروحي، وتستعيد ذاكرتي مآسٍ تكاد تخنقني، وأتذكر مدى الفرحة التي كانوا يشعرون بها قبل قصفهم، ولاسيما فرحة العروس التي استشهدت قبل أن تكتمل فرحتها”.

أما “محمد هلال” أحد أفراد العائلة التي فقدت نسوتها وأطفالها، والذي يعمل ضمن فريق الدفاع المدني في مدينة جسر الشغور، فلم يكن وقع المجزرة بأقل تأثيراً عليه من فاديا، ولم تكن صدمته أقل، فهو الذي توجه مع زملائه لمحاولة إنقاذ مصابين، فإذا بأشلاء أقاربه تتناثر في كافة أرجاء المكان.
يقول محمد لزيتون: “عند أذان الظهر في يوم الجمعة، وعندما كان الرجال في المساجد، أغارت الطائرات الروسية على الحي الشمالي من مدينة جسر الشغور، فتوجهت مع عناصر الدفاع المدني إلى مكان الغارة، وإذا بها قد استهدفت منزل عمي، حيث كانت نساء العائلة مجتمعات”.
ورغم أن المجزرة حدثت قبل أكثر من عامين، غير أن محمد لا يستطيع نسيان أي تفصيل من تفاصيلها، والتي عبر عنها بقوله: “كان مشهداً لا يمكن وصفه، فقد تم انتشال جميع الأشلاء من الشارع، إذ أن حجم الضغط الذي أحدثه الصاروخ دفع بجميع من كان في المنزل إلى خارجه، جثثا متقطعة وأشلاء متناثرة، وكلها جثث لنساء وأطفال عائلتي”.
ويضيف محمد: “ثمانية نسوة، وسبعة أطفال، زوجة أخي وابنته، وبنات عمي وأطفالهن ومن بينهن العروس رولا، كلهم أشلاء، باستثناء فاديا التي عثرنا عليها في المنزل المجاور، وقد أُصيبت وكُسرت يدها، فتم نقلها إلى المشفى”. 
“ياسمين” ليست من أفراد عائلة هلال، ولكنها ممرضة في مشفى جسر الشغور، كانت شاهدة على الحادثة، وشاهدت الجثث والأشلاء والناجية الوحيدة المصابة، عندما تم نقلها إلى المشفى الذي تعمل فيه.
تقول ياسمين لزيتون: “عند حدوث الغارة هرعت سيارات الإسعاف إلى مكان الاستهداف، وتم استنفار جميع كادر المشفى لاستقبال الإسعافات، إلا أن أول سيارة وصلت للمشفى كانت عبارة عن بطانيات تحتوي على أشلاء مقطعة، فجسد العروس مقسوم لقسمين، وهناك طفل بعمر السنة كانت أحشائه قد خرجت من بطنه، هذه كانت أكبر القطع الموجودة في هذه البطانيات، أما البقية فقد كانت عبارة عن أيدٍ وأرجل، أو أجزاء منها، لدرجة أننا لم نعرف كم شخص يوجد في كل منها”.
وتضيف الممرضة: “تبع ذلك وصول دفعة جديدة كانت بينهم امرأة مازالت على قيد الحياة، تم تحويلها إلى إحدى المشافي المتخصصة بعد إجراء الإسعافات الأولية لها، واستمر عمل الدفاع المدني لليوم التالي، وذلك للبحث عن طفل كان مفقوداً، وقد تم انتشاله شهيداً من تحت الأنقاض”.
ياسمين الممرضة التي شهدت وتشهد الكثير من الحوادث من قصفٍ وغيره، تصف ذلك اليوم بأنه من أقسى الأيام التي مرت على المشفى والعاملين فيها، وعلى المدينة حتى هذه اللحظة، فمشهد الجثث والأشلاء والأحشاء التي تعود لأطفال ونساء مشهد يدمي القلب، ولكن المشهد الأقسى والأكثر تأثيراً في نفس ياسمين، كان لسيدة حامل في الشهر الثامن، وقد وجد جنينها إلى جانبها مستشهداً أيضاً.
في الثامن عشر من شهر كانون الأول عام 2015، فقدت عائلة هلال 15 شهيداً من أفرادها، ولكن هذه المجزرة ليست الوحيدة، فكل يوم من أيام السنة يحمل ذكرى لأحد السوريين وعائلاتهم، ربما لم يكونوا في حالة آل هلال متجمعين من أجل خطوبة، لكن أسلحة النظام كانت لهم بالمرصاد في ساحات الأعياد، والمساجد، وكروم التين أو الزيتون.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*