الهوية السورية.. بين الخرائط المنقسمة والمستقبل المجهول

زيتون – عبد الله حسن

لا شك أن أحد أكثر الأسئلة إلحاحاً على مستوى الفرد والجماعة داخل وخارج سوريا، بات في الوقت الراهن السؤال عن الهوية، خصوصاً بعد أن دخلت الحرب فيها عامها الثامن، وبرزت معها أشكال الهويّات ما قبل الوطنية؛ ولعلّ السوريين جميعاً اليوم متساوون أمام هذا السؤال المفصلي، والذي تُعتبر محاولات الإجابة عليه -أياً كانت- ضرباً من ضروب الجنون، أو العبث ربما.. من أنا الآن؟ ولمن أنتمي؟ الدين، الطائفة، القومية، أم الأرض؟ وما الذي يعنيه ذلك؟

ما يؤرق حقاً ليس محضر الإجابة وحدها، بقدر ما يؤسف حال أبناء سوريا أنفسهم، الشبّان تحديداً، نماذج عدة تلتقيها هنا وهناك، يعتقد معظمهم وبشكل جاد حقاً أن ما جرى في بلادنا لا يعدو أن يكون مؤامرة، على الدين، أو على “قلب العروبة النابض” سورية بالتاء المربوطة، التي يرأسها بشار الأسد؛ وهذا لوحده كفيل بتحجيم سؤال الهوية نفسه، علاوةً على تحجيمه الإجابة أيضاً.

في مطلع العام 2011 خرج السوريون إلى الشارع، من كل المدن، ومن شتى الأديان والطوائف، مطالبين النظام بمنحهم حريّة أن يكونوا ما يريدون، حريّة ومسؤولية أن يشاركوا في عملية النهوض ببلادهم إلى مستوى ما، حملوا الورود، ووزّعوا في مظاهراتهم المياه على جنود النظام تعبيراً عن سلميّتهم، وآخرون حملوا يافطات تقول “لا سلفية ولا إخوان” كي يتجاوزوا بها أزمة الثمانينيّات؛ إلا أن النظام من جانبه سعى وبشكل منهجي إلى تفتيت تلك المطالبة والحطّ من شأنها، فأخرج من سجونه معظم من تراهم اليوم من قادة الفصائل الدينية، وأعطى جنوده الأوامر بأن يتعاملوا مع ما يجري على أساس طائفي بحت، وبذلك تنبّأ بردّة فعل معارضيه، وأحكم قبضته على خطابهم، وأخذَهم معه للمشاركة في عملية إنتاج الهوية الدينية والطائفية والعرقيّة والقبَليّة، ليحتفل الجميع بعد ذلك في هذا الكرنفال الدموي الصاخب، كرنفال الحرب الأهليّة.

باركت معظم دول العالم سيئة السمعة هذه الحرب، حتى عبر طريقة معارضتها، سعت بعضها للتشديد على أن سوريا دولة مسلمة أولاً، دعمت الإخوان والحركات الجهادية التي أطلق النظام من جانبه سراح قاداتها، وفتحت الباب أمامهم ليدخلوها من كل حدب وصوب بذرائع “الدفاع عن نساء المسلمين”، ودعمتهم بالأموال والعتاد؛ ودولٌ أخرى قالت إن سوريا دولة عربية فقط، ودولٌ قالت إنها رأس حربة المقاومة ضد إسرائيل؛ بينما تكفّلَ السوريون أنفسهم بالباقي، تنطّعوا للدين، والمذهب، والقومية، والعرق، والمدينة، والقبيلة، ولون البشرة، حتى على مستوى الجنس ميّزوا بين الذكور والإناث، كحال الدول الغارقة في رجعيتها وجهلها، وإن كانت معظم مجتمعاتنا تميّز بين الرجال والنساء أصلاً قبل العام 2011.

بعد أن كان للنظام السوري ما أراد حين دفع الناس إلى تحكيم غرائزهم والتشبّث بانتماءاتهم الصغيرة، حكمَ على جميع معارضيه بأنهم يشبهون بعضهم البعض، جميعهم أبناء شكل واحد، وفكرة واحدة، دينية كانت أم غيرها… بعد أن تم له ذلك أخذ يعزلهم ديموغرافياً، حصرهم في منطقة واحدة لتقتتل انتماءاتهم الصغيرة ضمن حدودها، واستفردَ بالريادة، وإن كان الآن لا يملك من أمره شيئاً فالأمر بيد دول أخرى، إلا أنه عملياً أداة ناجحة، بينما المعارضة أداة فاشلة بيد تركيا وقطر وغيرها من دول العالم البراغماتي القذر، التي لا تزال تستثمر فيهم يوماً بعد يوم، على حسابنا جميعاً.

نعم، “بوسع النيّة الصادقة إن لم تكن نيّرة متبصّرة أن تُحدث من الأضرار مثلما يُحدث الخبث وسوء النيّة” يقول ألبير كامو في روايته “الطاعون” المنشورة عام 1947، هذا ما يجري الآن، لكن على الرغم من أنه حين يقاسي الناس ظرفاً معيناً تتولد في أنفسهم مشاعر بالعدالة النسبيّة إذ الجميع يعاني، ويملأ الأرض بصراخه وعويله داخل سوريا وخارجها، والجميع محكوم عليه أيضاً من وجهة النظر العليا للحرب، على الرغم من تولّد هذه المشاعر بالعدالة إلا أنهم يسقطون أعمق كلما تشبّثوا بانتماء ضيّق أكثر، حتى يصل الأمر إلى أن يتشبّث المرء بذاته وحدها بغض النظر عن كل ما يمكن أن يحدث، وهنا ينتقل عالم الإنسان المُعاش من المستوى البشري إلى مستوى الغابات، أو ربّما أدنى.

سؤالُ الهوية، ذاتيّةً كانت أم مجتمعيّة، والذي هو جزء تبِعات الحرب وسياسات الأطراف المتنازعة تجاوزَ حدودَ الأرض إلى دول اللجوء؛ معظم المدن التركية على سبيل المثال باتت ذات طابع خاص بالنسبة للسوريين، النسبة العظمى من أبناء الرقة ودير الزور اللاجئين تجدهم في أورفا، ومن أبناء الشمال الشرقي فيما يقابله داخل تركيا أو في العراق، واللاجئون من أهالي حلب في غازي عينتاب وهكذا، كلٌ في منطقة يجد أقرانه فيها، أو انتماءَه الصغير الذي بات من الصعب تجاوزه الآن.

في اليونان، تحديداً جزيرة “ميتيليني” وهي إحدى الجزر التي يتجمع فيها اللاجئون السوريون بانتظار فرزهم إلى دول الاتحاد الأوروبي أو ترحيلهم، أخذت الهويّة ومخلّفات أسئلتها التي تقض مضاجعنا ليل نهار، أخذت شكلاً دموياً قبل عدة أيام، حيث هاجم مجموعة من اللاجئين في مخيّم “موريا” مجموعةً أخرى بالعصي والقضبان المعدنيّة، وهو ما أظهرته مقاطع فيديو تناقلتها حسابات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي.

على الرغم من أن الأنباء قد تضاربت حول أسباب الشجار ونتائجه بين من يقول إن الأسباب كانت تتعلق بكون المجموعة المعتدَى عليها قد امتنع أفرادها عن الصيام، أو كان حول خلاف في الرأي، وأنه قد قتل أربعة أشخاص خلاله وأصيب العشرات بجروح.. إلا أنه كان ذا بعد عنصري بحت، فالجهة التي تم الاعتداء عليها كانت من السورين الكرد، أما المعتدون فلم يتوانوا لحظة واحدة في الفيديو من القول بأنهم من مدينة دير الزور.

بات يبدو أن الشرخ المتفاقم أصلاً خلال السنوات الأخيرة بين السوريين قد وصل إلى حدود مأساوية، ولا عجب أن يظهر المزيد إلى ما هو كارثي، شتّان بين ما هو مأساوي، وبين ما هو كارثي بالطبع؛ أياً يكن، الهوية السورية اليوم مفتتة، ومشتّتة، وبحاجة ماسّة للسوريين، السوريين فقط، قبل أن يتحوّل السؤال بحد ذاته إلى تهمة، أو إلى جريمة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*