ما وراء السور.. هنا وهناك

زيتون – سحر الأحمد

ترجل من سيارته الأنيقة، رتب هندامه كما لو أن مرآة أمامه، من الجانب الآخر ظهرت سيدة تضاهيه أناقة، حملا سلات من الورود الملونة تكاد تقول أنا الحياة، أنا الماضي بكل تفاصيله المضمرة والمعلنة، أنا الحاضر، والمستقبل أنا.

دخلا مكاناً يشبه الجنة، كانت الابتسامة لغة الحوار بينهما إلى أن وصلا لمحاذاة مكان سكني، والذي لا يفصلني عنه سوى سور صغير.

كنت أسكن بجوار العالم الآخر دون أن أدري، تفنن أبنائي خلال الأيام الماضية في محاولاتهم الاحتيال على الأمر والاحتياط لإخفاء أمر مجاورتي للمقبرة اتقاء لما يمكن أن تكون عليه ردة فعلي تجاه هذا المكان.

عشت أياماً لا أدري حقيقة جيراني، إلى أن أتى يوم وكانت صدمتي، وأُفجع فيه من حقيقة معرفتي بعالم ما وراء السور.

تداعت الذكريات المرعبة بعد مواجهتي حقيقة عالم الجوار الجديد، كنت صغيرة عندما اصطحبتني أمي معها ذات يوم إلى مقبرة العائلة في “باب الصغير” بمدينة دمشق، كانت موحشة كعجوز وحيدة، فقيرة لكل شي إلا ازحام القبور، كنت أتعثر أثناء سيري بين ممرات القبور إلى أن وصلنا قبر جدتي.

كم من ليال مرت علي، والتفكير بما يجري يشغلني ويجتاحني دون رحمة، فما زُرع في ذاكرتي الطفولية عما وراء السور من كائنات وأشكال في باب الصغير، كان هو تخيلي لعالم ما وراء السور هنا.

لم أتقبل وجود هذا المكان حتى بعد اكتمال وعيي وتقبّلي لحقيقة حتمية الموت وبديهيته كنهاية طبيعية للإنسان، كنت أتجنبه، بل أخشاه وأرتعب من معارك ومقاصل ما وراء السور في بلادي.

بعد تردد لم يدم طويلاً، قررت الدخول وراء الرجل والمرأة واكتشاف عالم ما وراء سورهم، وأنا أتساءل هل هو ذاته عالم ما وراء السور في بلادي؟.

لم يمنعنِ الرعب عن حب اكتشاف المجهول واختبار كنهه، حاولت جاهدة بنظراتي إليهم أن أقول لهم: يا جماعة هذه الأناقة وهذا الفرح لا تليق بهذا المكان.

ستفسدون أناقتكم وتتعثرون، وهنا سيعلو الطين أحذيتكم النظيفة اللامعة.

كل محاولاتي ذهبت سدىَ، كانا يبتسمان ويتبادلان الحديث مع كل من يصادفانه من مرمر وغرانيت ورخام بكل ألوانه.

جلست قريبة منهما مأخوذة بكل ما وقعت عليه عيناي، الورود الملونة الباذخة الترتيب تغزو المكان وتحتله بأناقة، الشجر تم تنسيقه بذوق، والحجر صيغ بمهارة حتى خلته ينطق جمالاً. ممرات نظيفة، مقاعد خشبية تأخذ أمكنتها اللائقة بين الألوان، عصافير تتنقل بين الأشجار والرخام الذي تحسبه وروداً لفرط بهائه وتألقه.

وجدتني أبتسم راجعة لمسكني وأنا أتمتم، سلاماً لأرواحكم أيها الراقدون تحت هذا التراب، ليت أموات بلادي تسري عليهم قوانين الهجرة لينعموا برفاهية افتقدوها في حياتهم وقضوا قهراً، وهم يحاولون انتزاع أبسط حقوقهم الآدمية.

هنا باريس.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*