وصية حب.. قبيل الوداع


أحمد فرج
حين خرج من عمليته التي شقوا بها صدره وأخرجوا قلبه ليزيلوا ما علق به من قهر السجن والحياة، جلس على مقعده في الحديقة تحت إحدى الشجيرات هزيلا كقشة محروقة، زائغ النظرات مرتجف الأوصال، كما لو أنه ينظر إلى العدم.
فاجأه سؤال كدفق ماء بارد أعاده من حياة أخرى، “بعد كل هذا العمر ما الشيء الذي يستأهل أن تعيش من أجله؟”.
بابتسامة ساخرة ليس من السؤال ولا من السائل إنما من الحياة نفسها أجاب: “الحب”، قالها بهذا اللفظ الجاف والمطلق كمن يطلب الماء أو الهواء.
لم أتخيل أن من يقارب على السبعين يمكن أن يولي اهتماما للمشاعر فكيف بالحب كمطلق.
وفي استيضاحي عما يعنيه من هذه المفردة الواسعة والمطاطة قال بأنه يعني الحب في كل شيء، ولكل شيء، للإنسان وللطبيعة والحياة بكل ما فيها، للرحمة والحنان والرأفة والتسامح والسلام.
في الطريق وبعد عدة أيام كان يحدق في كل شيء كمن يتشرب وجه عزيز، ومن المؤكد أنه كان يجري المقارنات ما بين مدن غارقة في الجمال وبين بلدته التي تركها ركاماً، مرعوباً من مفاجآت سمائها وظلام دهاليزها، تساءل بصوت داخلي لم أسمع سوى صداه “ما الذي يمنع أن يعيش الناس في سلام؟”.
أرجعتني كلماته إلى ما ينسب للكاتب “ماركيز” في وصيته ذائعة الصيت حين اعتزل الناس بسبب مرضه، رآها الكثيرون بأنها خلاصة حكمة الكاتب الشهير، وآخر كلماته التي جاء فيها:
“لو وهبني الله حياة أطول لكان من المحتمل ألا أقول كل ما أفكر فيه، لكنني بالتأكيد كنت سأفكر في كل ما أقوله، كنت سأقيّم الأشياء ليس لقيمتها بل لما تعنيه، سأنام قليلاً وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نوم خسارة لـ 60 ثانية من النور. وسأسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام.
لو شاء ربي أن يهبني حفنة حياة أخرى سأرتدي ملابس بسيطة وأستلقي على وجه الأرض عارياً ليس من جسدي وحسب بل من روحي أيضاً، وسأبرهن للناس كم يخطئون لو اعتقدوا أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، فهم لا يدرون أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق.
يا إلهي … إذا كان مقدراً لي أن أعيش وقتاً أطول، لما تركت يوماً واحد يمر دون أن أقول للناس أنني أحبهم، أحبهم جميعاً، لما تركت رجلاً واحداً أو امرأة إلا وأقنعته أنه المفضل عندي، كنت عشت عاشقاً للحب.
كنت سأمنح الطفل الصغير أجنحة وأتركه يتعلم وحده الطيران كنت سأجعل المسنين يدركون أن تقدم العمر ليس هو الذي يجعلنا نموت بل: الموت الحقيقي هو النسيان.

في خندق هؤلاء الذين فهموا الحياة بمعناها العميق والبعيد، يقف الكثر منهم لا يبالون الشهرة، ولا يلتفتون لقشرة الحياة، دأبهم الخير والعطاء والبناء، بعضهم يحاذر السخرية، فيما يقدم آخرون غير هيابين من مطبات قد يضعها أناس على الطرف الآخر من الحياة، فيما يعمل جلهم بصمت النبلاء.
في رسالته التي طلب منه أن يوجهها لطلابه يقول أحد المعلمين:

“اسمحوا لأنفسكم أن تحبوا، وقدموا دون انتظار الرد، افعلوا ما شئتم من أجل أنفسكم لا من أجل المردود، أعطوا بلا مقابل، حتى تكسبوا أنفسكم ولا تضيعوا العطاء بالأنا، لا تُعمّموا وانظروا لكل إنسان على أساس إنسانيته وشخصيته وفرده”.

على الضفة الأخرى يقف الأغبياء بمعاولهم يهدمون ما تقدمه الحياة من عطاء، يفاضلون ما بين الروح والمادة، فلا هم يملكون الروح ولا هم يمتلكون المادة، يقضون أيامهم تكلفاً، فلا هم يكنزون المال ولا هم يحظون بالحب.
يروي الكهل عن عشقه للحياة وهو يضع يده على صدره المفتوح: في يوم ما كنت ممثلا على خشبة المسرح، لم أكن لأرى الجمهور لشدة شغفي بالتمثيل، كنا فرقة صغيرة في بلدة صغيرة، لم تشغلنا الحياة عن الفن والجمال، نتذوق الكلمة ونثمن الشغف، كنا عشاقا بسطاء.
كانت أشجار حقولنا لوحة، منازلنا جنة، شوارع قريتنا نزهة، لقاءاتنا أعياد، كل ما نراه أو نعيشه يعنينا، للتفاصيل الصغيرة قيمة، شربة الماء من نبعة الضيعة زلال وزمزم، جلسة العشب وقطاف الزيتون وأعراسنا التي لا تنتهي.
يولي الكهل بعد معتقله القصير وجراحته الفارقة اهتماما كبيرا للأحفاد، يقول إن أكثر ما يغريه الآن هو رؤية تلك المخلوقات الصغيرة، المليئة بالحب والبراءة، وحين يتحدث معهم عبر الهاتف يعلو صوته فرحا كطفل، لا يأبه لمن حوله، ويخترق المسافة البعيدة بمخيلته ليكون معهم، يردد مفردات المناغاة والدلال، يعدهم بالمجيء وبالفرح.
ولا يشكك الرجل بعد هذا العمر في أن السعادة تكمن في تقديم الحب والخير للناس، لا في امتلاك أسباب النعيم، بل يرى أن النعيم يكمن في تلك المودة الغامرة التي يمكن للإنسان أن يعيشها في الحب.
“جربت كل شيء ومللته، لكنني لم أكتف من الحياة” ففي الحقول بيادر، وعلى أبواب البيوت نساء وأطفال، وبين شقوق الحجارة ورود وحشائش، على الجبال ينابيع لم تكتشف، وثمة شروق جديد، وعشاق لم يلتقوا بعد.
يختم ماركيز وصيته بقوله: “الغد ليس مؤكداً لا للشاب ولا للكهل، ربما هذا آخر يوم نرى فيه من نحب. فلنتصرّف لئلا نندم لأننا لم نبذل الجهد الكافي لنبتسم، لنحنّ، لنطبع قبلة، أو لأننا مشغولون عن قول كلمة فيها أمل”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*