مهجري دمشق الشباب.. من الحصار إلى الحصار

زيتون – تيسير المحمد
بعد حصار طويل لمدن وبلدات متفرقة ضمن بقعة جغرافية صغيرة، خرج عشرات الآلاف من دمشق وريفها نحو الشمال، بعد أن مارس عليهم نظام الأسد التجويع والقصف والتشريد، ليُخيَّروا بين البقاء تحت سلطته أو الخروج إلى الشمال السوري، وكان لمحافظة إدلب الحظ الأوفر منهم.

يطلق على الخارجين اسم “مُهجّرين”، ولكن البعض منهم يحبذ أن يسميهم مهاجرين، لأنهم لو أرادوا لبقوا في بلداتهم ولكنهم رفضوا البقاء، إذ لا يستطيع أهالي تلك المناطق التعايش مع مجرمين عاثوا في الأرض فسادا، فقتلوا أبناءهم واستباحوا أرضهم وعرضهم، وضربوا بالقيم والمبادئ الإنسانية عرض الحائط، فضلاً عن المخاطر والمخاوف الأمنية لديهم، فاختاروا أن ينفوا من أرضهم التي هي جزء منهم إلى أرض ربما لم يتعرفوا عليها سابقاً، ولكن ميزتها أن لا سلطة للأسد ونظامه عليها. 

صعوبة في تأمين المنازل
في المكان الجديد كان الواقع مختلفاً عن الصورة المرسومة في أذهان معظم الوافدين إليه، المساعدات شحيحة جداً، عدد قليل من الوافدين استطاع تأمين أدنى مقومات الحياة، فيما لجأ آخرون مجبرين للسكن في الخيام، وما يزال غيرهم يبحثون عن منزل يسكنونه مع عائلاتهم.

بصعوبة بالغة يتمكن المهجرون من إيجاد منزل، لا سيما بعد أن ارتفعت الإيجارات للضعف وأكثر، وذلك بسبب الطلب المتزايد على المنازل، ليصبح ملاذهم الوحيد هو تلك الخيام التي يعيشون فيها، والتي كانوا يظنون أنها مرحلة مؤقتة، لكن بعد صدمتهم بالواقع الجديد أصبحت الخيمة كل شيء لهم.

“حسن الخطيب” الذي يتقن العمل في حرفة “الموزاييك” لم يجد أحدا يعمل في مجال حرفته، كان ناشطا إعلاميا في جنوب دمشق قبل أن يهجر مع زوجته وأولاده، قال لزيتون: “التهجير فرض علينا أشياء لم نختبرها من قبل، انتقلنا من بين أهلنا وأصدقائنا وشوارع وحارات بلدتنا الصغيرة إلى مناطق لم نألفها من قبل، مساحات شاسعة وبلدات عديدة، لا يوجد أمان أبداً في المناطق التي هجرنا إليها، ورغم تفاوت الانفلات الأمني من منطقة إلى أخرى إلا أن الخوف يعم المنطقة هنا”.

وأضاف: “انتقلنا إلى خيم تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، وفي أحسن الأحوال إلى منازل باهظة الإيجار، كما أن الحصول على فرصة العمل وتأمين القوت ضئيلة جداً، إضافة إلى صعوبة التأقلم مع الجو الجديد واختلاف مزاج الناس وعاداتهم وتقاليدهم عن مناطقنا”.
ويشكو الخطيب من تعامل البعض مع المهجرين بشكل مادي، وكأنهم سائحين، متناسين أنهم خرجوا من مدنهم لا يحملون سوى أطفالهم وأرواحهم، تاركين خلفهم بيوتهم وأرزاقهم وأهلهم وكل شيء، مشيراً إلى قسم آخر من الأهالي الذين لم يبخلوا بشيء مما يمكنهم تقديمه”.
مدرس الرياضيات المهجر من جنوب دمشق “غيث محمد” روى لزيتون: “حين هُجّرت مع زوجتي وابني الصغير، شعرت بالغربة، نمط حياة مختلف، منطقة محررة، ولكنها خالية مظاهر الثورة، غلاء في المعيشة وفحش في أجرة البيوت التي يجب ان تقدم بأسعار رمزية للمهجرين”.
فرص عمل معدومة والسلاح هو العمل الوحيد
وأما فرص العمل فتكاد تكون معدومة، ويرى المهجرون أن إيجاد عمل في منطقتهم الجديدة شبه مستحيل، فمحافظة إدلب مهملة ومهمشة من قبل النظام حتى قبل الثورة السورية، ما كان يدفع معظم شبانها للتطوع في الشرطة أو الجيش بسبب انعدام فرص العمل.
ويعتبر مدرس الرياضيات “محمد” أن أكثر ما يؤرق المهجرين هو انعدام فرص العمل وانتشار البطالة بشكل كبير، أو توفر عمل لا يكفي لإيجار البيت، العمل المتوفر حاليا هو أن تنضم لإحدى الفصائل المتواجدة في المنطقة، وهو ما يحجم عنه معظم الشباب بسبب الخلافات والاقتتال بين الفصائل وعدم القناعة في الفكر المتطرف الذي تحمله معظم الفصائل، إضافة لغياب العمل المنظم وتوقف الأعمال القتالية ضد نظام الأسد.

فشل التعليم 
لم تتوقف خيبات الأمل فقط عند عدم توفر فرص العمل أو إيجاد المأوى فحتى على صعيد التعليم، لا يعرف الشباب المهجرون أين يتجهون لمتابعة تعليمهم، إذ لا وجود للجامعات الرسمية المعترف بشهاداتها، وعلى الرغم من عدم الاعتراف بشهادات الجامعات الخاصة المتواجدة في الشمال السوري، إلا أن رسوم التسجيل فيها مرتفعة قياساً بالوضع المادي المتردي لدى المهجرين، وأما الجام
“محمد ياسين” طالب عشريني عمل ضمن فريق إعلامي “مونتير” قال: “استكمال التعليم صعب جدا بسبب الوضع المادي إذ يجب عليك أن تعمل، ولا يمكن الجمع بين الأمرين في الوضع الحالي، حتى ولو كنت سعيد الحظ وأكملت دراستك، فالشهادة غير معترف بها”.
أما التعليم في تركيا فليس متاحاً إلى لقلة ممن يملكون الإمكانيات المالية التي تخولهم من الدخول إلى الأراضي التركية وخصوصا بعد إغلاق الحدود، وعدم السماح للمدنيين بالدخول إليها، وهو ما يشكل عائقاً أمام وصول الطلاب المهجرين وأبناء المنطقة إلى المدارس والجامعات التركية.

الوضع العسكري والأمني
“نصر محمد” أحد مهجري دمشق يرى أن الحياة رغم صعوبتها في الشمال إلا أنه يمكن التأقلم معها ولو بالحد الادنى، أما بالنسبة للفصائل العسكرية المسيطرة فهمها -بحسب رأيه- ممالكها الوهمية لا حماية المدنيين ولا الحفاظ على مكتسبات الثورة، إذ لا تخلو بين الفينة والاخرى من اشتباك هنا أو تفجير مفخخة هناك دون معرفة الفاعل أو محاسبة المقصرين في أمن المناطق، متأسفا على أعداد المقاتلين وكميات السلاح الهائلة التي يمكنها أن تواجه أعتى الجيوش، إلا أنه لم يرى من هذه الفصائل إلا الخذلان لأنفسهم أولا ولغيرها مثل داريا والغوطة الشرقية وغيرهما والأن درعا.

المحامي عرفان أبو الخير أجاب باقتضاب: “لا أريد أن أتحدث عن السلبيات، المنفى الجديد هو أرض سورية سنثمر فيها من جديد، ليس هنالك أي تخوف من المستقبل القريب طالما أن هنالك وطنيين سيعيدون بناء سوريا الوطن”.

خرجوا من ارضهم التي ولدوا فيها تاركين كل شيء خلفهم، إلا من بعض الذكريات بحلوها ومرها، الواقع الجديد زاد من تعقيد الوضع النفسي لهم، الذي ازداد سوءا بعد اصطدامهم بواقع مر، ولكن يبقى الأمل عند البعض منهم في أن تُقلب الموازيين وأن تعود الثورة لتغطي سوريا، فكل شيء ممكن.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*