بعد قمة طهران: إدلب إلى أين؟

المرصد الاستراتيجي

التحضيرات للمعركة المرتقبة
على الصعيد المحلي؛ يحشد النظام وحلفاؤه قواتهم لعملية ضخمة ضد محافظة إدلب من عدة محاور؛ يتوقع أن تنطلق إحداها من ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، والثانية من منطقة جورين بأقصى الشمال الغربي لحماة. والثالثة من ريـف حلب الجنوبي وتحديدًا من مطار “أبــو الظهور”، وذلــك بالتزامن مع تعزيز قــوات النظام مواقعها بإرسال قــوات خاصة وآلـيـات في ريـف اللاذقية، تدعمها ميلشيات موالية لإيران تنتشر فـي عــدة مـحـاور بريف اللاذقية هي: سلمى، وربيعة، ومحور غزالة، وصلنفة، والعقابات في محور جب الأحمر، وقمة النبي يونس، وقلعة شلت. ونقلت مصادر عن مسؤول في “حزب اهلل” قوله: “سيكون حزب اهلل حاضرًا بقوة كبيرة للمشاركة في القضاء على القاعدة والمقاتلين إلى جانب الآخرين والجهاديين المتمركزين في شمال سوريا.”
كما نجح النظام في استمالة بعض الفصائل المتصالحة مع النظام للمشاركة في العمليات المرتقبة، حيث استقدم المئات منهم إلى مطار حماة العسكري وعين عليهم رئيس المخابرات العسكرية في حماة العميد وفيق ناصر، وذلك بهدف تشكيل قوة إسناد لميلشيا “النمر” التي يقودها سهيل الحسن.

ومن جانبها؛ بادرت “قوات سوريا الديمقراطية” بإرسال نحو ثلاثة آلاف مقاتل إلــى مناطق التماس بين قــوات النظام وفصائل المعارضة بالتزامن مع وصول نحو ألفي مقاتل من قوات الحرس الجمهوري إلى مدينة تل رفعت شمال حلب، حيث أكــدت مـصـادر محلية أن حــزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” يعمل على دمج ما تبقى من قواته في شمال حلب مع قوات النظام، مشيرة إلى أن الوحدات الكردية تخلت عن شاراتها الخاصة وارتدت الزي الرسمي لقوات النظام.
ووفقًا لمصادر مطلعة فقد توجه العشرات من قوات “قسد” بآلياتهم العسكرية إلى منطقة الكاستيلو والسكن الشبابي المحاذيتين لمناطق سيطرة الفصائل في الريف الغربي لحلب في بلدات كفر حمرة وحريتان.
وتساعد القوات الروسية في أعمال التحضير للمعركة المرتقبة، حيث وصل نحو خمسين عسكريًا روسيًا بين ضابط وجندي إلى قاعدة أبو الظهور الجوية تدعمهم آليات وأسلحة استراتيجية، وذلك للقيام بأعمال الاستطلاع والرصد الميداني الإستباقي.

ومن جهتها؛ أعلنت أبرز فصائل المعارضة في إدلب عن تشكيل “الجبهة الوطنية للتحرير”، لتصبح قوة عسكرية كبرى تضم: “فيلق الشام”، و“جيش إدلب الحر”، و“الفرقة الساحلية الأولى”، و“الفرقة الساحلية الثانية”، و“الفرقة الأولى مشاة”، و“الجيش الثاني”، و“جيش النخبة”، و“جيش النصر”، و“لواء شهداء الإسلام في داريا”، و“لواء الحرية”، و“الفرقة 23″، وأكدت استعدادها الكامل ألي عمل عسكري مرتقب في الشمال السوري31 أغسطس، مؤكدة أنها رسمت الخطط الدفاعية والهجومية في حال شنت قوات النظام هجومًا ضدها، كما بادرت إلى تفجير الجسر الواصل بين ضفتي نهر العاصي، والذي يشكل الطريق الوحيد للعبور من مناطق سيطرة المعارضة إلى مناطق سيطرة النظام.

كما أعلنت فصائل منطقة “درع الفرات” و“غصن الزيتون” تضامنها الكامل مع فصائل إدلب، مؤكدة أنه لا يمكن الفصل بين مناطق ريف حلب الشمالي الشرقي، وإدلب والساحل وريف حماة وريف حلب، ومعتبرة أن أية عملية عسكرية في تلك المناطق ستكون بمثابة إعلان إنهاء العمل باتفاق خفض التصعيد.
وعلى إثر قصف قوات النظام لمواقع في محافظة إدلب، ردت المعارضة باستهداف مرابض الطائرات المروحية في مدرسة “المجنزرات” التابعة للنظام في ريف حماة الشرقي، كما استهدفت غرفة عمليات عسكرية للنظام شرقي إدلب، ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للتعبير عن قلقه “البالغ” إزاء التصعيد العسكري مطالبًا بممارسة ضبط النفس، وتحديد أولويات حماية المدنيين.
كما عبرت وزارة الخارجية الفرنسية عن “قلقها بشأن هجوم محتمل واسـع النطاق ينفذه النظام السوري وحلفاؤه”، مؤكدة “إن مثل هذا الهجوم سيكون له انعكاسات كارثية، وسيؤدي إلى كارثة إنسانية جديدة وهجرة كبيرة، حيث يمكن أن يهدد مباشرة ثالثة ماليين مدني”.

واقع ميداني جديد يرتسم على أنقاض المرحلة السابقة
إن الحقيقة التي يصعب إنكارها، هي أن الحشود العسكرية الضخمة لم تأت لمجرد التفاعل مع معركة إدلب، بل تهدف إلى ملء الفراغ الناتج عن استنزاف الأطراف التقليدية للصراع خلال السنوات السبعة الماضية، والمتمثلة في قوات المعارضة وقوات النظام والميلشيات الحليفة التي بدأت تتفكك في الأسابيع الماضية كذلك.
ويسود الشعور لدى القوى الفاعلة أن ثمة معادلة صراع جديدة ترتسم في المشهد السوري؛ ففي مقابل تراجع فصائل المعارضة لا يبدو النظام والميلشيات الموالية له أحسن حالاً، حيث يحاول الظهور بمظهر القوة والقدرة على ضم المزيد من المناطق لسيطرته، لكنه ال يستطيع إخفاء حقيقة عجزه عن شن أية معركة بصورة منفردة، وخضوع الفرق القليلة المتماسكة من جيشه للوصاية الروسية.
وتؤكد الحقائق الميدانية أن النظام ال يزال عاجزًا عن نشر العدد الذي تعهد به في القنيطرة ودرعا، ولم تتمكن قواته من الانتشار بصورة فاعلة في المناطق التي خضعت له حتى الآن، مما يدفع القوات الروسية للاعتماد بصورة متزايدة على الفصائل المتصالحة معها.
وكذلك الحال بالنسبة للتحضيرات لعملية إدلب حيث تنحصر مشاركة النظام على عدد محدود من الفرقة الرابعة والقوات الخاصة، مقابل حشود كبيرة للميلشيات الموالية إيران، تدعمها بعض القوى الكردية وقوى المعارضة “المتصالحة.”

ويمكن الإحالة إلى عدد كبير من التقارير العسكرية الروسية والإيرانية التي تعبر عن قلقها من تدهور أداء جيش النظام، وعجز عناصره عن خوض المعارك أو القيام بالمهام الأساسية كحماية القادة والمنشآت، خاصة وأن بشار الأسد وقادته العسكريون قد أصبحوا تحت حماية القوات الخاصة الروسية التي تهيمن على قيادة الأركان في دمشق.
ومن أبرز ملامح ذلك الضعف:
1- تفشي الفوضى في المناطق التابعة للنظام كما هو الحال في اللاذقية على سبيل المثال.
2- التصفيات الداخلية والاغتيالات في صفوف النظام حيث شهد شهر أغسطس المنصرم تصفية نحو أربعين شخصية أغلبهم من ضباط القوى الجوية وسلاح الصواريخ وقطاع الأسلحة الكيميائية والصواريخ.
3- قيام القوات الروسية بتفكيك البنية التحتية لميلشيات النظام، حيث شهدت الأسابيع الماضية حل الميلشيات التابعة إدارة المخابرات الجوية، ويقدر عددهم بالآلاف، بالإضافة إلى حل ميليشيا “الدفاع الوطني” في كل من برزة، وقدسيا، وميلشيا “درع القلمون”، وتزامن ذلك مع إهانة واعتقال عدد ال يستهان به من قادة هذه الميلشيات، أبرزهم قائد ميليشيا “الدفاع الوطني” فراس العراقية في دير الزور الذي تم اعتقاله ومصادرة كميات من الدولارات والمخدرات بحوزته، وشن حملة اعتقالات طالت عناصره في مدينتي موحسن والبوليل.
4- محاولة الــروس تشكيل قوة هجينة للسيطرة على المناطق المحررة، تضم كال من: الوحدات الكردية، والفصائل المتصالحة، والميلشيات التابعة لإيران، والشرطة العسكرية الشيشانية، وما تبقى من تشكيلات قليلة متماسكة من فرق النظام مثل “ميلشيا النمر” و”قــوات الغيث”، والتي تعمل جميعها تحت القيادة الروسية التي تعكف على إعادة تشكيل القوات المسلحة وملء الفراغ الناتج عن انهيار جيش النظام.

عهد “الصفقات الهشة” وملامح التقسيم المرتقب
وفي ظل استنزاف الأطراف التقليدية في صراع طاحن دام لمدة سبع سنوات؛ تسابق القوى الإقليمية والدولية الزمن لتفادي حالة انهيار كامل من خلال التوصل إلى معادلة ميدانية جديدة يتم من خلالها اقتسام الأراضي السورية فيما يضمن مصالح الأطراف الفاعلة.
لكن احتباس الدبلوماسية الدولية يسفر عن معادلة صــراع جديدة، وتضاؤل فرص توصل القوى الفاعلة إلى اتفاقيات ملموسة حول سوريا، فالتفاهمات التي تم إبرامها بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فالديمير بوتين في قمة هلسنكي 16( يوليو) لا تزال هشة، وهنالك عقبات كثيرة تحول دون تحقيقها، فقد أبــرم وزيــر الخارجية الأسبق جون كيري اتفاقية مع نظيره سيرغي لافروف عام 2016، لكن معارضيها في واشنطن حالوا دون دخولها حيز التنفيذ آنذاك، ويبدو أن الوضع يتكرر مرة أخرى في الوقت الحالي، حيث تسود حالة من التذمر في الأوساط الأمنية والعسكرية بواشنطن من تراجع الموقف الأمريكي، وموافقة ترامب على توسيع القوات الروسية نفوذها الاستراتيجي في مرتفعات الجولان، مقابل تعهده بسحب القوات الأمريكية من مواقع مهمة، وإتاحة المجال لإيران أن تعزز مواقعها في القطاعات الوسطى مقابل انسحاب شكلي من الجنوب السوري.

وعلى الرغم من التفاهمات الروسية – الإسرائيلية التي أفضت إلى انتشار قــوات النظام في الجولان، إلا أن حكومة نتنياهو تبدو غير مقتنعة بقدرة روسيا على الوفاء بتعهداتها الأمنية التي بذلها جنرالات الجيش الروسي لتل أبيب، وخاصة منها ما يتعلق بالوجود الإيراني في سوريا، حيث تطالب تل أبيب بسحب القوات الإيرانية من كافة الأراضي السورية، وإزالــة مواقع الصواريخ البالستية ومصانع إنتاجها، وبسيطرة روسيا على المعابر الحدودية مع العراق ولبنان وإغلاقها في وجه مرور الأسلحة والمقاتلين التابعين لإيران و”حزب الله”، في حين يتنصل بوتين من تلك الادعاءات ويؤكد أن مطالب نتنياهو “غير واقعية.”

وتعمل إيران من طرفها على إفساد أية ترتيبات تستهدف وجودها في سوريا، حيث أوعزت إلى “حزب الله” أن يعمل على عرقلة تفاهمات مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون مع الرئيس الفرنسي ماكرون حول توسيع وتسليح مراقبي “الأندوف”، وبــادرت إلى تعزيز ميلشياتها في الجنوب السوري غير عابئة بالضغوط التي تمارس عليها، في حين يستمر الحرس الـثـوري بتوفير الإمكانات الميدانية والعسكرية وتنسيق عمليات القتال البري مع النظام، ويتغلغل عناصره في التشكيلات العسكرية التابعة للنظام، فضال عن الـدور الأساسي الذي يمارسه “فيلق القدس” في التحكم بالتشكيلات المحلية مثل قـوات الدفاع الوطني، ووحدات الشرطة التي تعمل في مجالات الحراسة والإدارة المدنية.
أما الوساطة الأممية في جنيف بلغت مرحلة الشلل الكامل نتيجة سعي موسكو وطهران إضعافها مقابل أستانة وسوتشي، فـي حين يـتـردى دور الوسيط الأممي ستافان دي مستورا ليصبح في تصريحاته الأخيرة عراب عمليات التهجير القسري التي تمارسها روسيا وإيران.

ويبدو الموقف العربي ضعيفًا في هذه المعادلة الجديدة، حيث تحجم الدول العربية الرئيسة عن اتــخــاذ مــواقــف حاسمة إزاء الأحداث المتسارعة، وال تـقـوم بـــدور فـاعـل فــي الأروقة الدبلوماسية في أستانة أو سوتشي أو جنيف، بل تناور بين محاولات التقرب من موسكو إبرام صفقات أسلحة متطورة، وبين مجاراة واشنطن في سياساتها المترددة، دون أن يكون هنالك تكتل عربي فاعل يمكنه اتخاذ مواقف واضحة إزاء الملفات الأساسية المتعلقة باستمرار جـرائـم النظام وانتهاكاته، ومــواجــهــة مخاطر تعزيز الــوجــود الإيراني على المنطقة برمتها.

وقد ينتهي مشهد ما بعد إدلب، بسوريا مقسمة إلى عدة قطاعات، وبقاء النظام كمشجب تعلق عليه طموحات الهيمنة الخارجية، حيث تتشكل في سوريا خارطة “تفاهمات هشة”، يهيمن في الجنوب الغربي منها “تفاهم” روسي-إسرائيلي يتوقع أن يسفر عن إعلان تل أبيب ضم الجولان المحتل نـهـائـيـًا، وتـظـهـر شــرقــي الــفــرات ملامح “تفاهمات” يبرمها الانفصاليون الأكراد مع نظام دمــشــق بــرعــايــة أمــريــكــيــة لإنشاء إدارة محلية تتمتع بسلطة مستقلة، وتبرم إيران مع دمشق مجموعة “تفاهمات” لإنشاء قواعد عسكرية تسمح لها بتعزيز نفوذها وإنــشــاء ممر لها إلــى البحر المتوسط، وينحسر المشهد في إدلب ومحيطها عن “تفاهمات” تركية-روسية لتثبيت شريط تركي يصل درع الــفــرات بغصن الــزيــتــون، ويـتـم تعزيز استقلاليته من خلال إنشاء نظامي أمــن وإدارة مستقلين.

هل تنجح دبلوماسية الوقت الضائع؟
في جهد حثيث لتدارك الكارثة الإنسانية المرتقبة؛ أعلنت وزارة الدفاع التركية 6(سبتمبر) عن توصل مسؤولين أتراك وروس إلى حلول مقبولة لجميع الأطراف من أجل حل عقدة إدلب، حيث توصل الطرفان إلى اتفاق يضمن إخلاء إدلب من التنظيمات المصنفة إرهابية، على أن تتولى تركيا العملية، ومنحها الوقت الكافي لذلك، وانتشار مجموعات من الشرطة العسكرية الروسية في جسر الشغور ومناطق في حماة وسهل الغاب، على ألا تدخل قوات النظام السوري هذه المناطق، وتبقى خاضعة للفصائل الموالية لأنقرة، كما وافق الروس تولي تركيا سحب سلاح الفصائل الثقيل، وأن تعهد إليها مسؤولية الأمن داخل تلك المناطق، نظير تعهدها بمنع أي هجوم على قاعدة حميميم وقوات النظام.

وتؤكد المصادر أن أنقرة قد وافقت على دخول مؤسسات النظام مدنية إدلب بإشراف روسي، وعلى إشــراف روسيا وإيــران على فتح المعابر من جهة مناطق النظام، في مقابل إشرافها على المعابر الخاضعة لسلطة المعارضة، وأن تتعاون مع روسيا على فتح الطريق الدولي من مورك شمال حماة، وفتح معبر باب السالمة وحمايتهما.

وفي مقابل رغبة موسكو وقف الهجمات على مناطق النظام وقاعدة حميميم، وتجنب وقوع معارك تسفر عن خسائر بشرية وموجات من اللاجئين؛ يبدو أن تركيا بدأت تنصاع للضغوط الروسية لإنهاء الظاهرة الفصائلية وتفكيك “هيئة تحرير الشام”، مع وجود خلافات بين الجانبين حول الآلية التي يتوجب اتباعها لتحقيق ذلك الهدف، إذ ترغب تركيا في التوصل إلى حل دبلوماسي مع “هيئة تحرير الشام” يقضي بحل نفسها لتجنيب إدلب هجومًا عسكريًا كبيرًا من روسيا والنظام، بينما ترغب موسكو بالتنسيق مع الاستخبارات والجيش التركي لشن معركة مشتركة ضد “هيئة تحرير الشام” إجبارها على تسليم أسلحتها الثقيلة وحل نفسها، أو توسيع المواجهة حتى إنهائها عسكريًا.
وتضغط الولايات المتحدة وأوروبا على تركيا لشن حملة “عنف محدود” ضد الهيئة لإجبارها على حل نفسها أو إنهائها عسكريًا، وذلك من خلال الاعتماد على الفصائل المعتدلة، والكشف عن مواقع التنظيمات المرتبطة بتنظيم القاعدة مثل “جبهة أنصار الدين”، و”الحزب الإسلامي التركستاني”، ويتوقع أن تسفر قمة طهران عن توافق ثالثي لتفادي معركة شاملة وشن معارك محدودة ضد الهيئة وحلفائها.

وتفيد مصار مقربة من البنتاغون أن الولايات المتحدة ال تعارض حملة عسكرية محدودة ضد فصائل تنظيم القاعدة وفصائل المعارضة التي ترفض مشروع المصالحة التركي-الروسي، شريطة الحد من نفوذ إيران وعدم السماح لها بالاستفادة من المعركة لتحقيق موطئ قدم شمال غربي سوريا، مؤكدة أن المسؤولين الأمريكيين يرغبون بشن هجوم محدود ودون استخدام السالح الكيميائي. وجاء تصريح مندوبة الولايات المتحدة للأمم المتحدة نيكي هيلي مؤكدة تلك المعلومات، حيث قالت في مؤتمر صحفي 4(سبتمبر) “إذا أرادوا (النظام وروسيا وإيران) مواصلة الطريق للسيطرة على سوريا فبإمكانهم ذلك دون استخدام أسلحة كيماوية.”
وتأتي التلميحات الأمريكية بإمكانية شن هجوم يشارك فيه الجيش التركي والقوات الإيرانية وفرق النظام، بالتزامن مع الكشف عن عدة اتصالات جرت في الأسابيع الماضية بين الاستخبارات الأمريكية وقياديين من أجهزة الأمن السوري لجس نبض دمشق بشأن استعدادها لتلبية الشروط الأميركية فيما يتعلق بتحجيم النفوذ الإيراني.

وعلى الرغم من نفي المسؤولين الأمريكيين وقوع حادثة بعينها، إلا أن واشنطن ال تستطيع أن تنفي إقامة اتصالات استخباراتية مكثفة مع دمشق منذ شهر يونيو الماضي، حيث عرضت على نظام الأسد سحب الجزء الأكبر من القوات الأمريكية بقاعدة التنف ومنطقة شرق الفرات، نظير منح “قوات سوريا الديمقراطية” استقلالاً سياسيًا، ومطالبة إيران بحسب قواتها بشكل كامل من منطقة الجنوب السوري، وتزويد الاستخبارات الأمريكية بقاعدة بيانات كاملة عن المجموعات الجهادية وأعضائها تتضمن أعداد القتلى الأجانب من أفراد هذه المجموعات ومن بقي منهم على قيد الحياة، ومن تتوافر لديه من هؤلاء إمكانية العودة إلى الدول الغربية.

وسرعان ما أثمرت هذه الاتصالات بدفع واشنطن “مجلس سوريا الديمقراطية” إقامة حوار مع دمشق يهدف إلى: “رسم خارطة طريق تقود إلى سورية ديمقراطية المركزية”، وإقامة نموذج شبيه بإقليم “كردستان العراق” في الشمال السوري، ومنح الأكراد إدارة ذاتية ضمن الدولة السورية، وضمان بقاء النظام مقابل تعهده بتقليص نفوذ إيران في الجنوب السوري.
مترًا، بالإضافة إلى تعهد روسيا بحماية حدودها، والحصول على ضمانات أمريكية تشمل الاعتراف بسيطرتها على الجولان المحتل، في حين يحظى النظام بـوجـود رمــزي ويـرفـع علمه على المعابر الحدودية تحت الوصاية الروسية وإشـــراف الأمم المتحدة.
وهذه الصورة التي تعمل أنقرة على تحقيقها في الشمال الغربي، حيث ترغب بالحصول على اعتراف دولــي بحقها في حماية حــدودهــا، وبسيطرتها عـلـى المنطقة الـمـمـتـدة مــا بـيـن “درع الــفــرات” و”غــصــن الــزيــتــون”، وتحجيم الــقــوى الانفصالية الكردية، وذلـك مقابل تعاونها في القضاء على التنظيمات الإرهابية، وسحب السالح الثقيل من الفصائل، وإلزامها بـإبـرام اتفاق مصالحة تسفر عن عودة مؤسسات الدولة إلى المعابر الحدودية وتولي الإدارة فيها.
وقد أكد بوتين هذه الحقيقة عندما اعتبر (في اجـتـمـاع القمة الثلاثية بـطـهـران 7 سبتمبر) أن معالجة الأزمة في إدلب يجب أن تجري باستخدام الآليات التي أتاحت “حل مثل هذه المشاكل في الماضي القريب”، وأردف قائلا: “يجب الاستفادة من هــذه الآليات من أجــل تنسيق أعمالنا في جميع هذه الاتجاهات والتقدم عبر سبيل تنظيم عمل اللجنة الدستورية.”

وتــرغــب موسكو فــي توظيف أزمــتــي القنيطرة وإدلب للقيام بدور الشرطي المعترف به دوليًا في سوريا، وحماية قواعدها في اللاذقية وحميميم، والاستحواذ على مشاريع إعادة الإعمار بعد عودة اللاجئين، كما تـرغـب فــي إعـــادة هيكلة الـقـوات المسلحة للنظام مــن خلال الـتـعـاون مــع تركيا لضم فصائل الـمـعـارضـة الشمالية تحت قيادة روسـيـة وفقًا لخطة روسـيـة تـم إقــرارهــا مـن قبل بوتين، وتتضمن تقسيم إدلب إلى قطاعات إدارية ومناطق عسكرية، تنخرط فيها فصائل المصالحة الشمالية تمهيدًا لتشكيل قوة أمنية من أبناء المنطقة.

عقب قمة طـهـران؛ إلــى أيــن تتجه الأوضاع في إدلب؟
أعـــلـــن الـــرئـــيـــس الـــــروســـــي، فلاديمير بــوتــيــن 7 (سبتمبر) أن القمة الثلاثية حـول سوريا التي جمعته في طهران مع الرئيسين الإيراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغــان، بحثت في إرساء الاستقرار في إدلب على مراحل، بحيث يتم الاتفاق مع الجهات المستعدة لذلك، مؤملا: “أن يتحلى الإرهابيون بما يكفي من المنطق لتسليم سلاحهم”، في حين حـذر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من أن: “هجومًا على إدلب سيؤدي إلى كارثة، إلى مجزرة ومأساة إنسانية”، وداعيًا إلى: “حل عقلاني في إدلب يعالج مخاوف الجميع”.
لكن حديث الرئيس الإيراني حسن روحاني كان يتجه في منحى آخر، حيث أكد أن: “محاربة الإرهاب في إدلـب أمر ال بد منه”، ومتهجمًا على الولايات المتحدة بالقول: “إن الوجود غير القانوني لأميركا وتدخلها في سوريا، الــذي أدى الاستمرار انعدام الأمن في هذا البلد، يجب أن ينتهي بسرعة”، بينما تحدث البيان الختامي عــن: “مواصلة التنسيق الثلاثي” حـول إدلــب، مما يؤكد التسريبات حول عدم توصل الفرقاء على صيغة مشتركة للتعامل مع الأزمة على خلفية مناقشة حادة وقعت حول صياغة البند المتعلق بإدلب السورية في البيان الختامي. وفي ظل استمرار الخالف؛ تتجه إدلب نحو أحد سيناريوهين؛
أما السيناريو الأول فيتمثل في تمكن موسكو في الأيام القليلة المقبلة من التوفيق بين الأطراف الفاعلة شمال غربي سوريا كما فعلت في الجنوب الغربي، حيث أفضت دبلوماسية روسيا في درعا والقنيطرة إلى إقناع إيران بسحب القوات التابعة لها مسافة مائة كيلومترًا عن الحدود الجنوبية الغربية لسوريا، مقابل موافقة تل أبيب على عودة النظام إلــى مواقعه قبل عــام 2011، والتزامها بـمـعـاهـدة عـــام 1974، والــحــصــول مـقـابـل ذلـك على نفوذ في الأراضي السورية بعمق 15 كيلو ويبقى التحدي في قدرة أنقرة وموسكو على إقناع طهران بتلك الصفقة، ومنع وقوع معارك شاملة يمكن أن تفسد جميع تلك الترتيبات.

أمــا السيناريو الـثـانـي، فيتمثل فـي رفــض إيــران محاولات إقصائها عن المشهد العسكري شمال غربي سوريا، وسعيها لخلط الأوراق عبر شن حرب شاملة تتفادى من خلالها الوقوع ضحية التفاهمات الدولية، مما يهدد بانهيار التفاهمات الهشة التي ترعاها واشنطن وموسكو منذ قمة هلسنكي في منتصف يوليو الماضي.
وفـي ظل تدهور العملة الإيرانية وتنامي موجة الاحتجاجات الشعبية، يثور الخالف داخل مؤسسات الحكم الإيرانية حول التعامل مع الملفات الساخنة، حيث يرغب فريق باللجوء إلى الدبلوماسية لمعالجة الوضع المتأزم، بينما يمعن الحرس الثوري الإيراني والـمـتـشـددون فـي إطلاق التهديدات بتصعيد المواقف الإقليمية وإغلاق المالحة في مضيق هرمز.

وفيما يعزز مخاوف هيمنة الجناح المتشدد؛ جاء الـرد الإيراني على التصعيد العسكري الأمريكي من خلال إرســال وزيـر الدفاع الإيراني أمير حاتمي إلـــى دمــشــق 26( آب) وتــوقــيــع اتـفـاقـيـة تـعـاون عسكري مع نظيره السوري عبد الله أيوب تسمح لإيران باستمرار التواجد والمشاركة في العمليات العسكرية بسوريا، تبعه وزير الخارجي جواد ظريف الــذي أطلق جملة تهديدات نارية ال تتناسب مع ضحكاته الساخرة التي كـان يستعرض بها في المحافل الدولية، بالإضافة إلى التصريحات النارية التي أطلقها روحاني في القمة الثلاثية بطهران 7( سبتمبر) والــتــي هــاجــم فيها دور الولايات المتحدة في سوريا واليمن، واتهامها بالخروج عن الأعراف الدولية.

وكانت مصادر أمنية مطلعة قد أكدت أن الاتفاق الروسي – الإسرائيلي (الــذي أبــرم في شهر يوليو الماضي) تضمن في أحد بنوده: “دفع تركيا فصائل المعارضة الشمالية إبرام اتفاقيات مصالحة مع الــروس.” وأكــدت المصادر نفسها نجاح موسكو فــي تحقيق تــقــارب بـيـن دمــشــق وأنـــقـــرة، بحيث تم إبــرام اتفاق بين الطرفين على صيانة وحدة الأراضي السورية تحت سيطرة النظام، وتمكينه من بسط السيطرة على إدلب على شاكلة ما وقع من اتفاقيات مصالحة في درعا، وتتضمن:
1- نشر قوات مراقبة تركية-روسية في المحافظة. 
2- طــرد جميع العناصر التي ال تقبل بترتيبات الاتفاق المزمع.
3- عــودة مؤسسات الدولة للعمل في الشمال السوري.
4- وضع معبر باب الهوى تحت سيطرة الشرطة العسكرية الروسية وإنشاء إدارة مدنية متصالحة مع النظام.
5- إنشاء نقاط مراقبة تركية-روسية مشتركة، تضم الفصائل الـمـهـادنـة الــتــي سيتم دفعها للعمل مع القيادة الروسية، وفق صيغة الاتفاق الذي أبرمته بعض فصائل الجنوب.

وتبدو الولايات المتحدة راضية عن هذه الصفقة شــريــطــة إلــــزام إيــــران بالانسحاب مــن المناطق الاستراتيجية شمال غربي الــبــالد، وضـمـان عدم حصولها على ممر بري يصلها بالبحر المتوسط.
ويبدو أن الحشود العسكرية الضخمة في مياه البحر المتوسط والخليج العربي تتأهب لهذا السيناريو القاتم، ولرسم خطوط التماس بين القوى الفاعلة في مرحلة ما بعد إدلب، حيث تلقى رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال آيزنكوت رسالة من نظيره في واشنطن الجنرال جوزيف دنفورد يؤكد فيها دعم الولايات المتحدة لعمل عسكري ضد القوات الإيرانية بسوريا في حال لم تلتزم موسكو بتعهداتها، كما بادرت القوات الأمريكية إلى تشكيل فريق مشترك مع تل أبيب كجزء من وثيقة تفاهم غير معلنة تهدف إلى إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا.
وفي حال فشل بوتين في كبح جماح الإيرانيين عقب القمة الثلاثية المرتقبة؛ فإن ذلك سيفتح الباب واسعًا أمام مواجهات عسكرية شاملة تبدو نذرها في عمليات القصف المتكرر للمواقع الإيرانية في سوريا، وفي عمليات التصفية النوعية التي شهدتها سوريا في الأسابيع الماضية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*