ولدي اسمه خالد.. خالد عامر الديري

بوجه أصفر ويدين مرتعشتين تحتضنان الذكرى المؤلمة، وغصة في الصوت، كانت تردد كلماتها وتسترجع ذكريات لا تفارقها عن شاب هو قطعة من روحها، لم يتسن له أن يستمتع بشبابه أو أن يحقق أحلامه، وبين كل كلمة وأخرى كانت تتوقف وهي تقلب حبات سبحتها، محاولةً أن توقف الدموع المنهمرة من عينين كالجمر المشتعل الذي يحرق قلبها.

ولدي اسمه خالد، ثم توقفت قليلاً وهي تتنهد، لتعود وتقول خالد عامر الديري، من مواليد 5 كانون الثاني 1994، اعتقلوه أثناء وجوده في دمشق كانون الأول عام 2011، هو طالب جامعي في سنته الأولى في قسم التربية وعلم النفس، كان عائداً من جامعته إلى المنزل الذي يقيم به في حي المزة، ألقي القبض عليه من قبل حاجز للنظام بتهمة المشاركة بالمظاهرات، وبقي في المعتقل عدة أشهر فقط، ليخرج منه شهيداً بسبب التعذيب الذي تعرض له على يد السجانين في الفرع 219.

“أبلغنا المحامي أحمد شهاب الموجود في دمشق، وقد كنا أوكلنا له مهمة الدفاع عنه وإخراجه من السجن بنبأ استشهاده”، قالت أخته التي كانت تحاول متابعة الحديث بدلاً من والدتها التي غلبها البكاء، قبل أن تلحق بوالدتها وتُغرق المكان بصوت نحيبها هي الأخرى، وتفقد القدرة تماماً على الكلام لدقائق، ثم تعود وتتابع:

“لقد كان أخي خالد هادئاً بطبعه، وملتزماً بدراسته، وكل أهالي بلدتنا جوباس تشهد بأخلاقه وأدبه واحترامه للآخرين، كان يعشق كرة القدم، كما كان يعشق فلسطين منذ صغره ويتمنى الشهادة على أرضها، ولم يكن يعلم أنه سيلاقي حتفه في سجون بلده وتحت التعذيب على يد أبناء وطنه”.

وككل الأمهات، يبقى أولادهن صغاراً في نظرهن مهما كبروا، ويخشين عليهم من الجوع وقلة النوم وما إلى ذلك كأي طفل، شعرت أم خالد بالخوف عليه منذ اعتقاله، سيما أنه كان نحيل الجسم، ضعيف الشهية، لا يولي للطعام أهمية أمام دراسته، بالإضافة إلى حدسها كأم، مضيفةً: “كانت دراسته تأخذ كل وقته، فلم يكن يجلس سوى لحظات معنا على المائدة يتناول بضع لقيمات ويعود إلى غرفته، عاش حياته هنا متنقلاً من مدرسته إلى منزله إلى المسجد، كل وقته للدراسة وقراءة القرآن، لم نكن نتخيل أن تكون نهاية حياته بهذه السرعة، وقد كنا نتأمل أن يتمكن المحامي من إثبات براءته من التهم التي نسبت له لا أن يبلغنا برحيله”.

وعن كيفية تلقيهم لخبر اعتقاله ونبأ استشهاده قالت أخت خالد الثانية: “بينما كان أخي في إدلب، تلقى اتصالاً هاتفياً من زميل لخالد في جامعة دمشق، أبلغه باعتقاله، عاد أخي أدراجه مسرعاً لا يعرف كيف سينقل لنا الخبر، كانت لحظات من الحيرة والوجع والتساؤلات التي لا تنتهي، وأصبحت العائلة كلها في قلق وخوف، ولا سيما أن والدي مسافر وغير موجود بيننا”.

وأضافت: “ومنذ ذلك الحين داومت على البقاء بجوار الهاتف، أملاً بسماع أخبار مفرحة، إلى أن اتصل شخص من دمشق يحمل لنا رسالةً من المحامي في أيار عام 2012، وهي نبأ استشهاد خالد، كان النبأ قاتلاً ومرعباً بالنسبة لي، ولم أكن أدرك كيف علي أن أبلغ أمي التي تنتظر عودته حياً”، احتضنت صورة أخيها وغرقت بدموعها.

تابعت الأم بحسرة: “طلب منا أن نذهب إلى القابون لإحضار أوراقه وساعته وشهادة وفاته، إلا أننا خشينا من الذهاب إلى دمشق واعتقال النظام لابني الثاني”.

“ما زلت حتى هذه اللحظة لا أصدق ما حدث، مازال فراغه قاتلاً، وصوت ضحكته مع ابنة شقيقته التي كان يحبها جداً ترن في قلبي قبل أذني، وما زلت حتى اللحظة أحتفظ بقميصه المفضل لديه، والذي كان يحمل اسم فلسطين”.

واختتمت الأم حديثها قائلة: “منذ أن تلقيت نبأ استشهاده في عام 2012 وحتى هذه اللحظة، أحيا معه في كل تفصيل من تفاصيل حياتي، وأتخيل كيف كان سيكون شكله اليوم، ومن هي عروسته التي كان سيختارها، وما شكل أطفاله، الذين حرموني من احتضانهم والفرح بهم”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*