في المترو

الصورة رمزية

زيتون – سحر الأحمد

عندما وصل المترو، كان الازدحام شديداً على الرصيف، استطعت أن أدخل رغم الجموع وفي سري شكرت نحافة جسدي الذي سمح لي أن أتحرك بسهولة وسرعة.

عادة ً لا أحب القسم الأخير من عربة المترو، لأنه يشعرني بضيق المكان، فهو شبه غرفة صغيرة، تتألف من ثلاثة مقاعد يقابلها ثلاثة مقاعد وفقط.

كان قد سبقني واحتل هذا المكان المؤقت شاب وسيم وصبية جميلة جلست قبالته، اضطررت أن أساكنهما واحتل بدوري مقعداً بجانب الشاب، فطريقي طويل وليس لي خيار أخر، سواءً أكان المكان يعجبني أو لا.

أجلست امرأة طفليها الصغيرين وبقيت هي واقفة، وهكذا تكون المقاعد الستة قد امتلأت، وبما أن الطريق طويل وممل قلت لنفسي أفعلي شيئاً مفيداً بهذا الوقت الضائع.

أخرجت دفتري الصغير القابع دائماً بحقيبتي أدون فيه ما تيسر من إلهامات قصصي القصيرة، فمادتي الأخيرة التي كتبتها في المقهى، تحتاج لقراءة وإعادة صياغة لبعض الجمل لأني ما زلت غير راضية عنها بعد.

بدأت بالقراءة غير عابئة بتوقف المترو عند كل محطة، لأن محطتي هي الأخيرة ولدي وقت طويل لأصل إليها.

فيما أنا منهمكة بتغيير بعض الجمل واستبدالها بأخرى، تعقد الأمر بداخلي ولم أعد مسيطرة على تركيزي، انسياب أحداث قصتي التي أنقحها أخذت منحى جديد.

وجدت نفسي بدون قصد أتابع مشهد اختلطت به مشاعري، بين جمال المشتهى العاطفي وواقعنا المر، الذي أصبح سريعاً حتى بالعواطف، لا ينتظر أحداً، هو يسرع ونحن نلهث وراءه راكضين علنا ندركه، متناسين بقصد أو بدون قصد الحالات الإنسانية والعاطفية الحقيقية.

تبسمت الصبية للشاب الجالس قبالتها، فيما بعد أدركت أنهما يعرفان بعضهما كما أن لهما وجهة واحدة.

وباعتبارها جالسة قبالتي شدتني ابتسامتها الطفولية الطويلة، كما دفعني جمال عينيها أن أدقق النظر أكثر فيهما فقد زادتاها جمالاً على جمال وجهها، فهما واسعتان تحيط بالحدقة الكبيرة الشديدة السواد مساحة كبيرة أيضاً من البياض، أعتقد أن هذا الجمال هو ما يسمى بالعيون الحور.

كان الشاب الجالس بمحاذاتي يبادلها البسمة بابتسامة تفيض حباً، وكأنه يروي ببسمته لها قصة عشقه التي لن تنتهي.

أثناء سير المترو، الذي كان كلما انعطف وتعَرج يصدر صوتاً مزعجاً بفعل احتكاك عجلاته المعدنية بالسكة الحديدية، تضطرب الفتاة ويصيبها فزع داخلي بدا واضحا حتى للطفلين الصغيرين وأمهما الذين لفت انتباههم هلع الفتاة.

كان الشاب يخفف عنها خوفها بكلمات لا صوت لها، وكأن كلماته هي أحرف من أبجدية صُنعت خصيصاً لحبيبته لا يفهمها أحد غيرها.

رغم قربي الشديد منهما بحكم المكان، إلا أني لم أسمع شيئاً، فحديثه كان بالشفاه والإشارة.

فجأة أخرج الشاب هاتفه النقَال واستقر على لعبة إلكترونية، وبدأ بترتيب ألوان المكعبات العشوائية في اللعبة التي تتساقط بسرعة، توقف الشاب عن الترتيب وبسرعة بدأت هي تكمل ما بدأه وأصبحت لعبتهما تبادلية، الموبايل بيده، هي جالسة قبالته عندما يتوقف هو عن اللعب، بسرعة فائقة تتدخل هي وتكمل ترتيب المكعبات، ثم يأتي دوره وهكذا، والمترو مستمر في طريقه.

على ما يبدو أن الصبية عندها رهاب التنقل بالمترو، وحبيبها يعرف ذلك، واحتمال أن أمراً جللاً اضطرهما لركوبه، بدليل أن الشاب احتال على رعبها بأن يشغلها باللعبة في هاتفه النقَال مرة، ومرة أخرة بمحادثتها ومغازلتها ريثما يصلوا محطتهم المنشودة، وكأنه صار أمها وهي الطفلة المسكينة الباكية التي دخلت بيت الأشباح بشكل خاطئ، فما كان من الأم إلا أن أخرجت من حقيبتها لعبة ابنتها الصغيرة المحببة، فحضنتها الصغيرة وهدأ قلبها.

لكن شابتنا لم تهدأ، وتوقفت عن اللعب وبدأت تشير لحبيبها بحركات سريعة بأصابعها يفهمها فقط من تعلم لغة الإشارة، كأنها تقول له أنها ما زالت خائفة، هو بدوره يبادلها الإشارات ويهدأها.

تحدثوا كثيراً عن الخوف، يا لسوء حظي، لا أعرف من لغة الإشارة ولا إشارة، كي أعرف ما يقولون، كنت أنظر إليه تارة وهو يحادثها ومرة إليها وهي تجيبه وكأنني الصماء بينهما.

لم يعد يعنيني ماذا يقولون، بل أصبح هاجسي وفضولي يقودني لمعرفة من منهما فاقد النطق هو أم هي؟ أم هما الإثنان معاً؟

عبثاً ركزت على حركة الشفاه وإشارات الأصابع، لكني لم أصل لأي معرفة ترضي فضولي. قبل المحطة الأخيرة خاصتي، تهيأ الشاب الوسيم والصبية الجميلة للنزول من المترو، وأثناء مرورهما من جانبي قال لها بصوت سمعته أنا والطفلين الصغيرين وأمهما:

“لا تنزلي من المترو قبل أن يتوقف تماماً، فردت عليه بلغة مفهومة وواضحة: “لا تقلق يا حبيبي ستبقى يدي بيدك وستنزل أنت أولاً ثم أنزل أنا”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*