الموت في الصحراء.. ولا العودة للنظام

مخيم الركبان

زيتون – وعد البلخي
جيوش ونقاط ومناطق عسكرية أردنية وأمريكية وجيش حر في منطقة حدودية قاحلة توصف بأنها من أكثر المناطق الصحراوية قساوة، يخضع فيها عشرات آلاف السوريين لأسوأ أنواع الحصار على مدى سنوات الثورة السورية.


في منطقة لم تكن معروفة قبل الثورة، وتحوّلت بعدها إلى إحدى نقاط الأخذ والرد بين الدول لأشهر متواصلة بغية إيصال حفنة مساعدات لنازحين يعيشون في أكواخ طينية وخيام بلاستيكية، لجأوا إليها هرباً من تنظيم داعش، الذي ما لبث أن طاردهم إليها شبحه وما زال، إلى أن باتوا في منزل مليءٍ بالأشباح، أسوأهم بالنسبة لهم اليوم هو ذاك المسمى بالنظام السوري.
أكثر من 50 ألف سوريّ من محافظات عدة أبرزها “ريف دمشق، حمص، دير الزور، الرقة”، تأقلموا رغماً عنهم مع الحياة الصحراوية الجافة في مخيم “الركبان” على الحدود “السورية- الأردنية”، وقبلوا على مضض بالحياة وسط الحصار المفروض عليهم، إذ لم تكن الخيارات مفتوحة أمامهم، وفضّلوا وما يزالون حياتهم تلك على الحياة في مناطق سيطرة داعش أو العودة إلى منازلهم في مناطق سيطرة النظام.

مخيم الركبان.. الموقع والإنشاء 
ضمن الأراضي السورية، في أقصى الجنوب الشرقي من حدودها مع الأردن، ما بين ساترين ترابيين، الأول على بعد كيلومترات عن الحدود الأردنية، والثاني على الحدود مباشرة، علق النازحون السوريون الذين بدأوا بالتوافد إلى المنطقة، والمكوث فيها أملاً بأن يكون مكوثاً مؤقتاً يسمح لهم بالوصول إلى داخل الأراضي الأردنية خلال وقتٍ قصير، إلا أن الرياح جرت بعكس ما تمنى هؤلاء السوريون الذين قطعوا رحلات من وجهات مختلفة، جميعها كانت مليئةً بالخوف والجوع والعطش والسير لأيام وسط رمال الصحراء، وكان حلمهم بالوصول إلى بر الأمان هو ما دفعهم على تحمل مصاعبها.
في الفترة الواقعة ما بين حزيران 2013 وتشرين الثاني 2015، كانت الحكومة الأردنية تسمح من حينٍ لآخر لأعداد محدودة ومتفاوتة من السوريين بعبور حدودها الشمالية الشرقية، إلا أنها منعت دخولهم بعد ذلك بشكل نهائي، ليجد النازحون السوريون الماكثين في المنطقة أنفسهم داخل مخيم بعرض 3 كيلومترات، أخذ اسمه من الأرض الصحراوية الواقعة في محافظة المفرق الأردنية “الركبان أو الرقبان”. 
وكانت “هيومن رايتس ووتش” قد ذكرت في تقرير صدر عنها في 8 كانون الأول عام 2015، إن صور الأقمار الصناعية الملتقطة للجانب الشمالي من الحاجز الترابي في الركبان قبل أيام أظهرت وجود أكثر من 1450 خيمة، بعد أن كانت الصور الملتقطة في نيسان قد أظهرت 175 خيمة فقط.
ونقلت “هيومن رايتس ووتش” عن عمال إغاثة دوليون قولهم إن هناك 12 ألف شخص في المنطقة، أغلبهم نساء وأطفال، بحاجة ماسة للغذاء والماء والمساعدات الطبية، وإن الأطفال يعانون من الإسهال والقيء وسوء التغذية الحاد، كما أن انخفاض درجات الحرارة في فصل الشتاء سيؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة إضافية وربما إلى حالات وفاة، خصوصاً بين الأطفال وكبار السن، فضلاً عن مشاكل النظافة والصرف الصحي.
بينما قالت “مفوضية الأمم المتحدة السامية لللاجئين” إن من بين العالقين مرضى وجرحى، وإن الأردن يعرض حياة الناس إلى الخطر، وفقاً لـ “هيومن رايتس ووتش”.

المعاناة وشبح داعش
على مدى السنوات الماضية لم يشهد وضع مخيم الركبان تغييراً نحو الأفضل، بل على العكس تماماً كانت معاناة قاطنيه تتزايد يوماً بعد يوم، انعدمت فيه المرافق الخدمية والتعليمية، وشحت المواد الغذائية والمستلزمات الصحية، والمياه الصالحة للشرب في المخيم، النقاط الطبية اقتصرت على نقطة واحدة على الجانب الأردني، يعتبر من يستطيع الوصول إليها من سكان المخيم من سعيدي الحظ، إذ يخضع المخيم وسكانه وكافة شؤونه لأهواء جيش العشائر، الذي تم تدريبه في الأردن لمقاتلة داعش، وفقاً لمصادر محلية.
الجوع والمرض يفتكان بقاطني مخيم الركبان، البطالة والفساد والفوضى والسلب والنهب تكتسح المخيم، كانت العناوين الأبرز للركبان طيلة سنوات ثلاث، أما أسماؤه فهي كثيرة من بينها مخيم الموت ومخيم المنسيّين.
ويوصف الوضع الصحي في المخيم بالكارثي، إذ شهد المئات من حالات الوفاة، وإصابة نحو ألف طفل بمرض التهاب الكبد الوبائي A، وآلاف الإصابات بالإسهال، لم يجدوا أمامهم سوى بعض الممرضين والممرضات المتطوعين من سكان المخيم، والذين لم ينهِ بعضهم دراسة التمريض، وأما الأدوية فيحصل قاطنو المخيم عليها عبر تجار يقومون بتهريبها من مناطق سيطرة النظام وبيعها بأسعار باهظة، وفقاً لمصادر إعلامية.
الحرارة خلال ساعات النهار مرتفعة جداً، بينما تكون منخفضة إلى درجة كبيرة في الليل، أما العواصف الترابية فهي لا تميز بين الليل والنهار، ولا بين صيف وشتاء، ولا بين من يعيش تحت سقف تلك الخيام التي تقتلعها.
أرض مشاع يغيب فيها القانون، ويصعب فيها الحصول على الرعاية الصحية والغذاء والمياه، إنها مناطق يحكمها العنف والخوف، يهددها المرض، ويصعب أن تجد فيها الإغاثة، تصل درجات الحرارة أثناء النهار إلى أكثر من 40 درجة مئوية، بحسب شبكة الأنباء الإنسانية “إيرين”.
الأمم المتحدة اكتفت مرات عدة بمناشدة السلطات الأردنية -التي تقدم المياه للمخيم- بالسماح بإيصال المساعدات إلى داخل المخيم، المنظمات الدولية والإنسانية نأت بنفسها بدعوى المخاوف الأمنية، إذ سبق وأن تعرض المخيم لعدة هجمات من قبل عناصر تنظيم داعش، فضلاً عن وقوع المخيم ضمن المثلث الحدودي “السوري- الأردني- العراقي”.

 

21 حزيران.. اليوم الأسود في تاريخ الركبان
قبل هذا التاريخ كان حال مخيم الركبان وقاطنيه كما هو حالهم منذ إنشاء المخيم في أواخر عام 2015 سيئاً، ولكن يوم 21 حزيران عام 2016، حمل للركبان ومن فيه والذين كان يزيد عددهم عن 100 ألف شخص آنذاك، الكثير الكثير من التدهور المتزايد، والتردي في أوضاعهم، إذ شهد موقعاً عسكرياً أردنياً قرب المخيم هجوماً بسيارة مفخخة، أسفر عن مقتل 7 عناصر من الجنود الأردنيين وإصابة 13 آخرين، أعلنت الحكومة الأردنية على إثره “الركبان” منطقة عسكرية مغلقة حتى اليوم.
وقامت السلطات الأردنية بزيادة ارتفاع الساتر الترابي أكثر مما قبل، ومنعت وصول المساعدات إلى داخل المخيم لأشهر عديدة على الرغم من المناشدات الدولية الكثيرة ومن جهات مختلفة، لتسمح بعد أشهر بإدخال المساعدات ولكن لمرة واحدة فقط، وشريطة الاكتفاء بإنزالها بالرافعات دون وصول أي شخص إلى داخل المخيم حتى عمال الإغاثة الدولية، وكذلك الحال بالنسبة للخروج من المخيم. 
وقالت المديرة التنفيذية لبرنامج الغذاء العالمي بعمّان “أرثرين كازين” حينها إن “الحكومة كانت واضحة جداُ معنا بأن هذا التدخل سيكون لمرة واحدة، لكنها أكدت التزامها بالعمل معنا لإيجاد حل على المدى الطويل لكيفية ضمان توفير الدعم لمن هم أكثر حاجة”.
وفي بداية عام 2017، سمحت الأردن بوصول مساعدة لأقل من نصف سكان المخيم، على أن تكون المرة الأخيرة التي يتم إدخال المساعدات فيها من أراضيه، ليصبح دخولها مرهوناً بموافقة نظام الأسد، لا سيما بعد أن استعاد سيطرته على أكثر من 80 بالمئة من الأراضي السورية، وشددت قواته حصارها على المخيم.
وهو ما حصل بالفعل في مطلع الشهر الحالي، حيث دخلت أول قافلة مساعدات للمخيم منذ بداية العام عبر الأراضي السورية، وبعد موافقة النظام وإعاقة حواجزه ونقاط تفتيشه لوصولها، وبعد تسعة أشهر من التحضير والإجراءات.
وكان الجوع ونقص الغذاء وسوء العناية الطبية، ومنع الأردن دخول المساعدات والمرضى لاستكمال العلاج اللازم لهم، قد تسببت بوفاة أكثر من عشرين شخصاً، خلال الشهرين الماضيين، معظمهم من الأطفال، بحسب مصادر إعلامية.

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

الركبان والطوق العسكري
على الجانب الأردني يقف الساتر الترابي ليفصل أرض مخيم الركبان الواقعة في الأراضي السورية عن الجيش الأردني وحرس حدوده ونقاطه العسكرية المنتشرة على طول الشريط الحدودي.
وعلى الجانب الآخر وداخل الحدود السورية، يقع المخيم في منطقة تدعى “منطقة عدم الاشتباك”، مساحتها 55 كيلومتراً، أقامتها وزارة الدفاع الأمريكية لحماية قواتها المتواجدة في قاعدة “التنف” العسكرية، إلى جانب القوات البريطانية، ووحدات من الجيش النرويجي.
ويتقاسم الجانبان عمليتي دعم وتدريب فصائل عدة تتبع للجيش السوري الحر، وتتمركز في محيط المخيم مهمتها محاربة تنظيم داعش، ولكن قاطني المخيم لم يكونوا بعيدين عن مضايقات عناصر هذه الفصائل، ومن بينها “جيش مغاوير الثورة السورية، جيش أسود الشرقية، لواء شهداء القريتين، قوات الشهيد أحمد العبدو”، بينما كانت معاناتهم الأبرز مع جيش العشائر الذي يسيطر على مفاصل الحياة في المخيم.

اتفاق الإغلاق.. الموت في الصحراء أفضل من العودة للنظام
المتحكم الروسي في الشأن السوري، بعد انتهائه من أمر معبر نصيب الحدودي مع الأردن، وصل به المطاف إلى مخيم الركبان.
الجانب الأردني كما كان الأكثر حرصاً على افتتاح المعبر، هو أيضاً الأكثر إصراراً على إنهاء مخيم الركبان بشكل كامل، كما يتناسب الطرح الروسي بعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم مع مصالحه وتوجهاته، وربما وجد الأردن في روسيا المنقذ له، لا سيما في ظل الأوضاع التي شهدها خلال الأشهر الأخيرة، معلناً عبر المتحدث باسم وزارة خارجيته دعمه لخطة روسية حول ترتيب عودة طوعية لساكني المخيم لمنازلهم.
كذلك اللاعب الأمريكي الذي يسيطر على منطقة التنف حيث يقع المخيم، اتفق هذه المرة مع خصمه الروسي على حساب اللاجئين السوريين.
وبحسب وكالة “سبوتنيك”، فقد تم التوصل في نهاية أيلول الماضي لاتفاق بين مركز المصالحة الروسي في سوريا والقوات الأمريكية في التنف حول مصير المخيم والفصائل، على غرار اتفاقيات المصالحة التي أبرمها المركز في مناطق جنوب سوريا.
بينما رد اللاجئون السوريون في مخيم الركبان على الأنباء الواردة بخصوص إغلاق المخيم، باعتصام مفتوح، وإضراب عن الطعام، أملاً في أن يلفتوا أنظار العالم لمعاناتهم، وتعبيراً عن رفضهم إغلاق المخيم والعودة لمناطق سيطرة النظام.
فيما تؤكد الأمم المتحدة نيتها إرسال قافلة مساعدات ثانية إلى المخيم، مما يشير إلى أنها على كوكب آخر، أو في قطب آخر على الأرض التي وصف تقرير لـموقع”دايلي بيست” صدر قبل أيام، بأن مخيم الركبان هو نهايتها، أو في أفضل الأحوال بؤرة استيطانية منسية في فيلم حرب النجوم، وفقاً لما نقلته “أورينت نت”. 
السوريون الذين فروا منذ سنوات إلى الصحراء، وعانوا كل ما عانوه كي يتخلصوا من جرائم النظام وداعش معاً، أصبحوا اليوم فريسةً سهلة في غابة اللاعبين الكبار، والمصالح والاتفاقيات التي يخشون أن تعيدهم إلى ما هربوا منه ومن فروا من بطشهم، غير آبهين بما قد يحصل لأكثر من 50 ألف شخص.
كيف لا وهم لم يأبهوا منذ ثمان سنوات وحتى اليوم بملايين السوريين.. ولن يأبهوا!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*