نصادق على ما ورد في التقرير الطبي من عنف وشدة.. الشهيد محمد خير الدين عبيد

“شوهد على المغدور آثار العنف والشدة حيث توجد عدة سمجات على الطرف الأيسر من الوجه الوجنة اليسرى، وكدمات على الوجه الداخلي للشفة السفلى، وكدمات واسعة متعددة على الكتف الأيمن والعضد الأيمن من الناحية الوحشية والخلفية، ومن الناحية الخلفية للظهر بكامله كدمات واسعة أسفل الخاصرة اليسرى، وكدمتان دائريتان على شكل سوارين على المعصمين، وكدمات على ظهر اليدين اليمنى واليسرى، وكدمة على الإصبع الرابع والخامس والثالث لليد اليسرى، وكدمة صغيرة رضيّة على رأس القضيب، مع وجود كدمتين على الوجه الأمامي السفلي للخصيتين”.

“نصادق على ما ورد في التقرير الطبي من أوصاف ومشاهدات وشدة وعنف، ونضيف لدى معاينة المغدور محمد خير عبيد وجود شحوب شديد في ملتحمة العينين، يعود ذلك إلى النزف الهضمي العلوي، وإصابته كذلك بتناذر هرمي مع قصور كلوي حاد وانقطاع للبول، وعليه فإن سبب الوفاة هو النهي العصبي الناجم عن الصدمة الألمية بسبب الرضوض”.

شاب وسيم أشقر بعيون بنية وشعر خرنوبي، ذو لحية خفيفة وشارب، من مواليد السادس من كانون الثاني عام 1984، طوله 185 سنتيمتراً، نحيل الجسم، سبّاح ماهر، ومولع بركوب الخيل، خريج كلية الشريعة، والداعية في مساجد إدلب، والموظف لدى مديرية الصحة.

محضر ضبط كشف وخبرة طبية ثلاثية، تقرير الطب الشرعي واللجنة الطبية، شهادة جامعية، صور شخصية، وصورةٌ محفوظةٌ بالذاكرة لجثةٍ هامدة، بعيدة كل البعد عن الصور المطبوعة والمحفورة في القلب والعينين.

بين تلك الأوراق والصور المنثورةِ أمامه، وبين تلك الصورة التي لا يمكنه نقلها إلى الورق سوى عبر الكلمات، تاه أخو الشهيد “محمد خير الدين عبيد”، وهو يجري المقارنة، لم تسعفه الكلمات، ولا تكفه التقارير المكتوبة لوصف ما رأته عيناه، إذ لا يمكن لأي جمال أن يمحوَ قبحَ ما اقترفته أيديهم، وبعد رؤيته جثة أخيه على ذلك النحو، وقراءته تلك الأوراق كلها، وما سبق مقتطفات بسيطة منها، إذ تعطي التقارير وصفاً شاملاً أكثر مما ذكر، لم يعد للحياة عنده أية بهجة.

الاعتقال

في 16 آذار عام 2012، داهمت مجموعة من عناصر فرع الأمن العسكري بإدلب منزل خال الشهيد “محمد خير الدين عبيد”، واعتقلا معاً، وبعد ثمانية عشر يوماً أُفرج عن الخال ليبقى محمد في سجون الفرع، وطوال هذه المدة لم يتم استجواب محمد على الإطلاق، وفقاً لما نقله شقيق الشهيد عن خاله.

كانت عائلة “محمد” تعمل قبل إخلاء سبيل الخال للوصول إليه، ولم تكن تعلم أنه موجود في فرع الأمن العسكري، ولكن وضع إدلب كان صعباً جداً نتيجةً لاقتحام الجيش للمدينة، ما حال دون أن تتمكن أُسرة محمد من إنقاذه قبل فوات الأوان.

بعد 22 يوماً فقط من اعتقاله، حوَّل محمد إلى مشفى ابن سينا وهو بحالة صحية سيئة بسبب التعذيب الذي تعرض له، وكان صديق محمد يعمل ممرضاً في المشفى.

صُدِم الممرض عندما رأى صديقه بتلك الحال، ولم يستطع أن يخفي معرفته له وتأثره بحاله، فتم تهديده بإلحاقه به إذا أخبر عائلته، فلم يجرؤ على التفوه بكلمة، واكتفى بالاهتمام بصديقه، وبدل له ثيابه، وبقي “محمد” في المشفى من الصباح حتى العصر، حيث كان قد استعاد عافيته قليلاً، فعاد عناصر الأمن لاصطحابه إلى الفرع، ليعيدوه بعد الفجر وقد فارق الحياة، وكان ذلك في الثامن من نيسان عام 2012.

لم يعد للصمت مجال مهما كان الثمن بالنسبة للمرض والصديق، فما كان منه إلا أن أبلغ عائلة “محمد” باستشهاده، وبأن جثته موجودة في الطب الشرعي، علّهم يحصلون عليها، بحسب أخي الشهيد “محمد”، الذي ساعده عمله كمحامٍ، ومعرفته لجميع العاملين في سلك القضاء على التحرك الفوري.

وأضاف شقيق الشهيد الذي كان يعاني صعوبة في استعادة ذكرياته عن أخيه، واسترجاع تلك الصورة: “ذهبت إلى الطب الشرعي وتأكدت من وجوده، وقد كان ظاهراً للعيان آثار التعذيب الشديد التي تعرض له، وواجهتنا صعوبات في الحصول على جثته لأنهم رفضوا تسليمنا إياها، ولكني قمت بالتواصل مع أحد القضاة وحاولت جاهداً لاستلام الجثة، واتفقت معهم على استلامها  شريطة القول: إن العصابات المسلحة هي من قتلته، ولدى خروج جنازته كان الجيش يحيط بنا حتى لا تتحول جنازته إلى مظاهرة، فأخي كان رجل دين محبوباً لدى أهالي مدينتنا، وقد تأثر الجميع بنبأ استشهاده تحت التعذيب”.

كان الخبر قاسياً جداً على عائلة الشهيد “محمد”، ولا سيما على والدته التي فقدت وعيها عند سماع الخبر، وعانت على إثره من حالة نفسية صعبة، ولم تكن حال زوجته التي لم يكن قد مضى على زواجهما سوى خمسة أشهر فقط بأفضل من حال والدته، أما الأخ الذي شاهد جثة أخيه فما يزال يعاني من تلك الصورة حتى اللحظة.

وما تزال مكتبة “محمد” الغنية بالكتب، وصوره، وثيابه كلها في مكانها، ولا يمر يوم على عائلته دون أن تتحدث وتُحدث عنه، وتعير كتبه لكل من يطلبها، كي لا يُنسى الشاب الودود الطيب القلب والخلوق، الذي حمل فكراً مميزاً، وابتسامةً دائمةً في وجوه الجميع.

في سجنه، وفي عزّ محنته، كان محمد يهتم بمن معه في الزنزانة، ويُخفّف عنهم آلام السجن والاضطهاد الذي كانوا يلاقونه، ويدعوهم للصبر والثبات، بهذا ختم شقيق الشهيد حديثه بما علمه من أحد المعتقلين المفرج عنهم، وقد رافق الشهيد “محمد خير الدين عبيد” في سجنه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*