حرموني حتى من قبر له.. الشهيد أحمد خالد عباس

كانت صوره كما مصنوعاته الفخارية التي كان قد اعتاد صنعها بإتقان، وخط عليها حروفه بتميّز، موزعة في كل أرجاء المنزل، وكأن عائلته تريد إبقاء كل ما له صلة به حياً، ما يوحي لها أن أحمد ما يزال موجوداً بينهم.

منذ صغره وهو مثال للهدوء والاتزان وطاعة الوالدين، وكان قد تخرج من الكلية الحربية – كلية المدرعات في حمص عام 2011، لكنه نتيجةً للثورة وما رافقها من أحداث وعدم تسريح العسكريين، لم يتمكن من رؤية هدية تخرجه التي أراد والده أن يفاجئه بها، قبل أن يتفاجأ هو باعتقال أحمد ومن ثم باستشهاده في سجون النظام.

وُلد أحمد خالد عباس ابن مدينة كفرنبل في 3 آب عام 1991، درس في مدينته إلى أن التحق بالكلية الحربية في حمص، وتخرج منها برتبة ضابط.

لدى أحمد أخوان، أحدهما لحق بأحمد واستشهد بعده بأشهر، وأخفى معه سر استشهاد أخيه أحمد، الذي ظهر لاحقاً، أما الثالث فيبلغ من العمر الآن 16 عاماً، ولا يرفع ناظريه عن شاشة هاتفه الجوال التي خصص خلفيتها لصورة أخويه.

بيدين مرتجفتين ونظرات حائرة تحاول التستر بتجهيز لفافة من التبغ، وبصوت يكسوه الانكسار وتخفيه الغصة بين حين وآخر قال والد أحمد: “لا أذكر أن أحمد قال لي يوماً لا عن أي طلب طلبته منه، كنت أنتظر تخرجه بفارغ الصبر وقد اشتريت له سيارة كهدية، وأردتها أن تكون مفاجأةً له حين يعود للبلدة متخرجاً، ولم أكن أعلم أن مفاجأتي ستكون اعتقاله وأنه لن يرى سيارته أبداً”.

صمت الوالد طويلاً وهو يشعل لفافته وتنهد بحسرة أعوامه التي تجاوزت الستين تاركةً على وجهه خرائط من القهر والحزن لخسارة ولده ثم قال: “اعتقل أحمد في 25 أيار عام 2012، أثناء وجوده في الكلية الحربية بعد أن استلم قرار فرزه إلى إحدى المدن السورية، فقد كان برتبة ضابط، واكتشف أمره مع اثنين من زملائه يخططون للانشقاق عن الجيش، وللأسف استشهد ثلاثتهم تحت التعذيب”، مضيفاً:

“كان أحمد يتحدث إلي عبر الهاتف بين حين وآخر، وفي إحدى المرات أخبرني أنه يتوقع اعتقاله من قبل قوات النظام بعد شكوك راودتهم عن نيته بالانشقاق، وبعد هذا الحديث اعتقل ورفاقه، وبذلت جهدي لأنقذه من السجن، لم أترك محامياً إلا وطلبت منه مساعدتي، إلا أنني لم أحصل على نتيجة، عرضت مبالغ كبيرة على كل من وصلت إليهم من محامين وضباط مقابل إطلاق سراحه لكن دون جدوى”.

بقي والد أحمد على هذه الحال قرابة عامين يتأمل مع عائلته عودة ابنهم في أية لحظة، دون أن يعلموا باستشهاده، قبل عام، سئم والده الانتظار، ويئس من سلامته، فما كان منه إلا أن توجه في عام 2014 إلى دمشق للبحث عن ابنه، وبعد عشرين يوماً من البحث والتنقل من فرعٍ أمنيٍّ لآخر، حصل والد أحمد من أحد تلك الفروع على “رقم” لم يكن يعلم أنه رقم النهاية.

يقول “خالد عباس” والد أحمد: “أعطوني رقماً وطلبوا مني مراجعة الطب الشرعي، وهناك أخبروني أن أحمد توفي منذ عام، فقد كان قد مر عامان على اعتقاله حين ذهبت إلى دمشق لأدرك أنه متوفى منذ عام مضى، كانت لحظات قاسية جداً، فقد كنت أتمنى أن أعود لعائلتي ومعي خبر يفرحهم، ولكن صدمتي كانت أنني تأكدت من وفاته حين سلموني وثيقة تثبت وفاته في عام 2013″، مضيفاً: “في تلك اللحظات كان الموت أخف وطأةً علي من الخبر، فأنا الذي عشت عامين على أمل أن أراه، لأصدم أنه قد قتل تحت التعذيب وأخفيت جثته، لقد حرموني حتى من جثته ومن أن يكون لديه قبر”.

“عدت إلى كفرنبل، وأعلنت نبأ استشهاده، وكان ولدي الثاني قد استشهد أيضاً في إحدى الغارات الجوية على المدينة، لأتفاجأ بأنه وحده كان على علم باستشهاد أحمد، وأصر على إنكار الأمر وعدم إبلاغنا به، أخبرني صديقه بذلك”.

غاصت الكلمات في قلب والد أحمد تحت وطأة بكائه ولديه، ثم رفع رأسه قائلاً: “رغم كل حزني إلا أنني أفتخر بهما، فقد كان ولداي رجلين استشهدا في سبيل هذه الثورة”.

كان الأب يرسل نظراته خلف سحب الدخان التي ينفثها بتوتر واضح، وهو يراقب ابنه البالغ 16 عاماً، وقد احمرت عيناه من البكاء، وهو يصغي لحديث والده عن شقيقه الأكبر، فأضاف الأب قائلاً: “توجعني ذكرياتي عنه، وفراغه الذي تركه في المنزل وفي حياتي، ويؤلمني الحزن بين أهل بيتي، فولدي هذا، يضع صورة شقيقيه اللذين استشهدا خلفية على هاتفه، ويطيل النظر إليهما، وقد طلبت منه أن يمحو هذه الصورة، لأنها سبب في حزنه الدائم وصمته، ولديّ قناعة بأنه لا فائدة من تعذيب أرواحنا بصورهما ونحن واثقون أنهما لم ولن يعودا”.

علا صوت بكاء والد أحمد على صوت كل الكلمات، أحنى رأسه للأسفل، وغرق في نشيجه مع ولده اليافع، ليعود ويتابع: “لقد كان أحمد من أنبل الشباب”، ثم استدرك قائلاً: “أعلم أن شهادتي به مجروحة، ولكن كل من في المدينة يشهد على نبل أخلاقه وحبه لأهله وأهل بلده”.

“نعم لقد كان أحمد من أجمل الشباب وأفضلهم خلقاً في المدينة، يحب مساعدة الآخرين، وقد كان مبدعاً في الرسم وصناعة الفخار والرسم عليه، كانت هذه هوايته المفضلة”، قالها أحد الحاضرين من أبناء مدينة كفرنبل مقاطعاً والد أحمد، وخاتماً لحديثه.

ربما كان والد أحمد يواسي ابنه المتبقي معه، ناسياً أنه هو نفسه كان قد وزع صور أحمد ومصنوعاته الفخارية في أرجاء المنزل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*