اللغة وتطلعات الحياة الجديدة

زيتون – ياسمين محمد
اللغة ليست مجرد كلمات ورموز وأصوات، بل هي أكثر من وسيلة تواصل، هي التجسيد الوحيد للأفكار، وبدونها ينعدم المعنى من وجود البشرية، كما أنها النسغ الممتد من بدايات ما خط الإنسان على جدران الكهوف إلى يومنا هذا، ورغم أنها مجموعة من الأشكال الصورية التي تقابلها أصوات تم الاتفاق على دلالاتها جمعياً، إلا أنها تمتلك القدرة على توصيف كل ما يمكن أن يدور في النفس البشرية من أفكار ومشاعر مع اختلاف إمكانية الأفراد في التعبير عنها بحسب إدراكهم وتحصيلهم.

تعتبر اللغة من أشد الموروثات قوة وتداخلا بثقافة المجتمعات وتطورها وعراقتها، كما تعبر عن ميولها وهويتها، وتعكس بشكل أساسي عن طريق تشكيل تراكيبها وألفاظها آلية تفكير تلك المجتمعات وفلسفتها، ما يجعل من اللغة صورة حقيقية عن المتحدثين بها ومراحل تطورهم عبر التاريخ.
انتقاء الأشخاص لمفرداتهم وتفضيلهم لصيغ بدلا من أخرى هو ما يسمح بتقدير اختلاف مستوياتهم، ويدل على ما يضمر من اهتمام وفكر ونشاط ذهني.
ولا تتوقف اللغات باستمرارها عن التطور، يدفع ببعضها إلى الانتشار فيما يتهدد بعضها الزوال والانقراض، ويعود مرد ذلك إلى مرونة المجتمعات ذاتها وقدرتها على التطور والتبلور أو الذوبان والاندماج في مجتمعات ولغات أخرى، وبنظرة سريعة إلى اللغة العربية في العصر الجاهلي ندرك حجم الاختلاف الكبير الذي طرأ على اللغة العربية، ولا يمكن للعربي المعاصر من غير المختصين باللغة اليوم أن يعي معاني المعلقات مثلا دون هامش كبير لشرح المفردات العربية، والتي لم تعد تستخدم في لغتنا الحالية مطلقا، ليحل محلها مفردات أقل جزالة وأكثر سهولة وليونة، وهو دليل على حيوية العربية وقدرتها على التأقلم مع تطور الحياة، ويوصلنا ذلك إلى دور اللهجات المحكية والعامية ووظيفتها في اختصارات اللغة وما تضفيه من ألوان تعطي خصوصية المجتمعات وتشير إلى ما تفرضه الوحدة الجغرافية من تفردات صوتية حتى لو قطعتها الحدود السياسية.
ومن هنا يواجه المتعلمون لأي لغة صعوبة الغوص في مروحة واسعة من المعلومات المرتبطة بخلفيات اللغة وتبريرات شذوذها وتفردها، فاللغة تعني الثقافة والتاريخ والعلوم والسياسة وكيفية رؤية المجتمع لذاته وللآخرين وإلى ما هنالك من جوانب المجتمع، ما يسمح بإطلاق توصيفات موضوعية على اللغات التي بلغ عددها بحسب ويكيبيديا ما بين الخمسة آلاف لغة إلى السبعة آلاف لغة، يكاد قسم كبير منها أن يزول من الوجود.
هي إحدى أكبر التحديات التي تعترض السوريين اللاجئين في دول اللجوء، خصوصا أنهم وصلوا إلى دول لم يكن من المتوقع وصولهم إليها، وقد فرض عليهم قانونياً أو تحت ضغط الحياة أن يتقنوا لغتها ولو في الحدود الدنيا بوقت قصير، وتزداد تلك الصعوبات للذين تجاوزوا سن الأربعين، مع ما يفرضه عليهم هذا السن من مسؤوليات اجتماعية واقتصادية وعاطفية.
ولعل أفضل تشبيه لعملية تعلم اللغة هي هدم جدار، يحتاج إلى الكثير من الصدمات والمراحل، تساعد كل ضربة جديدة معتمدة على ما سبقها في زعزعته والاقتراب من انهياره، وبقدر ما يهتز ذلك الجدار بقدر ما تتعزز ثقة المتعلم ورسوخ اللغة لديه، في سباق ما بين الأمل واليأس، وما بين الإصرار والاستسلام.
ويمكن لنا بشكل تقريبي أن نقسم مراحل التعلم إلى:

مرحلة الصدمة:
وهي أولى المراحل التي يقف فيها الغريب أمام اللغة الجديدة عاجزا أمام ظلام التواصل مع الآخرين وأمام فهم ما يقولون، وتصبح عملية بسيطة كشراء الخبز عملية مخيفة ومعقدة، قد تحتاج منه التهيؤ لها قبل اقتحام المخبز، ويكون المتعلم في هذه المرحلة غير قادر على تمييز المفردات بل كل ما يسمعه هي أصوات لأحرف ولموسيقا لنبرات هي كقطعات الليل في أذنيه.
مرحلة التلمس:
في هذه المرحلة يستطيع المتعلم أن يميز بعض المفردات التي اكتسبها خلال الوقت، لا سيما التعابير البسيطة، ومفاتيح الأسئلة وإلقاء التحية والتعرف على أوليات التقاليد والقوانين، مع زيادة في مساحة معارفه الاجتماعية يتلاشى جزء مهم من القلق والرهبة.
خطورة هذه المرحلة تكمن في أنها مرحلة اتخاذ القرار لدى المتعلم، فإما أن يشحذ همته في بذل المزيد من الجهد لاكتساب مفردات وقواعد جديدة تساعده على فك طلاسم ما يقال أمامه، أو يسقط في عجز اليائس معتبرا أنها فوق طاقته وأن لا جدوى من المحاولة، لكن كل من يركن إلى القرار الأخير سيعود لاحقا ليجد أنه مجبر على إعادة النظر به، إذ لا يمكن له الحياة في مجتمع لا يفقه فيه ما يقال، ويسقط في هذا المطب كبار السن بما امتلأت به عقولهم أو لضعف ذاكرتهم وقلة مرونتهم الفكرية.
الغزو والاقتحام:
أبرز مراحل التعليم وأرسخها وأكثرها محورية، فيها يكنز المتعلم كماً كبيراً من المفردات، التي تعزز وجوده وتساعده على التواصل البسيط، كما يدخل في هذه المرحلة بحالة من الهوس والاهتمام باللغة تشغل حتى أحلامه، ويحاول أن يفسر كل ما يراه من خلال اللغة، وهو ما يزيد من قدرته على الولوج أكثر في دهاليزها وحفظ بعض تفاصيلها.
يوصف الكثير من المتعلمين في هذه المرحلة بانفتاح شهيتهم على كل ما يمكنه تقوية لغتهم، من دورات في المعاهد أو الانترنت أو اقتناء الكتب ومتابعة القنوات التلفزيونية التي تتحدث اللغة الجديدة مع خدمة كتابة ما ينطق بأسفل الشاشة، إضافة إلى الاستعانة دائما بخدمة الترجمة المتوفرة في الهاتف المحمول، والاستماع إلى الأغاني والدروس الصوتية لكسب الوقت حتى أثناء ممارستهم لأي نشاط آخر.
تدفع هذه الثقة بالمتعلم إلى المغامرة في الدخول ببعض الحوارات والاعتماد على قدرته اللغوية المحدودة في تسيير بعض الأوراق الخاصة به، ورغم تعثر أغلب تلك المحاولات إلا أنها تكون ذات فائدة كبيرة له نتيجة الجهد الفكري الذي يبذله في التواصل مع الآخرين.
مرحلة الشك:
رغم ما يحوزه المتعلم في هذه المرحلة من صلابة المعلومات وقدرة على تركيب الجمل وفهم ما يقال أمامه، إلا أن أغلب من يصل إلى هذه المرحلة يعيش حالة من الشك في المعلومات غير مبررة، وكثير منهم يحتاجون العودة إلى المعلومات الأولى والقواعد الأساسية.
وتشكل الامتحانات اللغوية التي يخضعون لها رعبا حقيقيا يعكس مدى ضعف ثقتهم بمعلوماتهم، رغم ما يبدونه من مهارة وسرعة في استحضار المفردات وصوغ جمل ومواضيع تحتاج إلى مقدرات لغوية كبيرة.
في هذه المرحلة ينهار قسم كبير من الجدار أمام المتعلم ولا يلبث أن يستعيد الثقة في مراحل متقدمة بعد أن يمر بعدد من التجارب الناجحة تعزز شخصيته اللغوية.
يساعد الكم الكبير من المعلومات لدى المتعلم في هذه المرحلة بقدرته على التوسع في اللغة وسبر أغوارها بدون مساعدة أو معلم، إذ يصبح قادرا على قراءة الكتب والصحف وامتلاك القراءة الآلية ومراجعة المعلومات المطلوبة باللغة الجديدة، كما لا يشكل عبئا على أصحاب اللغة الأصلاء بسبب سرعة تجاوبه وصورته كمتعلم ناجح لديهم، كما يحب أصحاب اللغة أن يسمعوا لغتهم منطوقة بشكل سليم، ولا يزعجهم وجود بعض الأخطاء البسيطة في التراكيب صادرة عن متعلم جديد.

يشعر كل من أجاد اللغة بأن بحجم المكتسبات التي امتلكها يستأهل ما مر به من ألم التحصيل، فيشجع بعدها كل المستجدين في التعلم على زيادة جهودهم والبدء بخطوات أوسع باتجاه إجادة اللغة.

مرحلة التمكن الأخيرة تتيح الولوج لثقافة المجتمع الجديد وعقد علاقات، كما تمكن من تحسين شروط حياته والعمل، إضافة إلى إمكانية تقديم المساعدة لأبناء لغته القديمة.

تعلم لغة جديدة هي قفزة هائلة على الصعيد الشخصي وهي بمثابة حياة جديدة تمنح لك، وبقليل من الإصرار والصبر ورغبة التعلم قد تعيش حياة ناجحة في وسط جديد، ربما تستطيع تحقيق أحلامك به، وربما يكون مناسبا لك أكثر من وسطك القديم، فلم لا ننطلق.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*