كتب المكتبة الدمشقية.. رحلة تهجير أم نزوح إلى الشمال

زيتون – تيسير محمد
بلا ضجة إعلامية، وفي وقت حرج كانت فيه المفاوضات تجري حول تحديد مصير الثوار في جنوب دمشق، بدأ العمل بمشروع المكتبة الدمشقية في بلدة يلدا في شباط عام 2017، بخطوات مدروسة تطورت تدريجيا لتحقيق نجاح موضوعي في ظل الحصار مدفوعا بضغط الحاجة للمعرفة والثقافة.

لم يدم عمر المكتبة الدمشقية أكثر من خمسة أشهر لتشهد بلدة يلدا والريف الدمشقي عمليات التهجير، فبعد افتتاحها في 2 كانون الأول 2017 تم إيقاف العمل بها نهائيا في أيار 2018 مع نهاية التهجير، ليتم التوافق ضمن فريق المكتبة على نقل جزء منها إلى الشمال السوري والإبقاء على الجزء الأكبر في المكتبة.

كما تم الاتفاق على إبقاء 7 آلاف كتاب كانت قد رتبت في المكتبة الدمشقية في مبنى السجل المدني، الذي تم اختياره كمقر للمكتبة، وذلك مراعاة لمن قرر البقاء في البلدة، فيما نقل ما يقارب 5 آلاف كتاب إلى الشمال السوري تحسبا لعدم المخاطرة بكامل الكتب في حال صودرت أو تعرضت لحادث.

وعن المفاوضات التي سبقت إخراج الكتب قال “عاطف أبو الخير” أحد المشرفين على المكتبة لزيتون: “حاولت من خلال علاقاتي ومعارفي أن نحصل على موافقة لإخراج المكتبة بكل ما تحتويه نحو الشمال، وتواصلت مع العديد من الجهات حتى مع الوفد الروسي المفاوض ولم ينجح الأمر، بل حاولوا إقناعي بالبقاء في المنطقة والإشراف على المكتبة في مكانها، كما ضغط بعض وجهاء وفاعليات المنطقة من أجل عدم إخراج الكتب باعتباره صرح قائم ومفيد للمنطقة بشكل عام”.

ويضيف “أبو الخير”: “عند بدء التهجير وخروج الحافلات من المنطقة، لاحظت سماح الوفد الروسي بإخراج العديد من الأشياء الغير ضرورية كالدجاج والطيور والقطط وغيرها، فعزمت على إخراج الكتب، واتفقت مع مجموعة من الأصدقاء على ذلك وجَعله أمراً واقعاً، وبالفعل تم تجهيز الكتب التي في المستودع للنقل، بالإضافة إلى ألف كتاب مميز من التي كانت قيد الاستخدام، وعند دخول الباصات المخصصة للتهجير قمنا بتحميل الكتب في إحداها”.

ويتابع أبو الخير في سرد قصة رحلة الكتب: “عند وصول الباص لنقطة التفتيش حاول الوفد الروسي وعناصر من نظام الأسد منع الكتب من الخروج بحجة أن الباص لا يحمل سوى خمسة أفراد فقط، وأن الباصات مخصصة لنقل البشر وليس لنقل الكتب، وجرى سجال طويل مع الوفد الروسي، وحاولوا الضغط لإنزال الكتب أو إرجاعها للمنطقة، لكننا تمسكنا بعدم إنزال أي كتاب، واستفدنا من عامل الوقت بعدم قدرة الوفد تأخير خروج القافلة ريثما يتم حل هذا الإشكال الذي يتطلب الكثير من الوقت، إضافة إلى عدم أهمية الكتب لدى الروس ونظام الأسد، إنما كان همهم الأكبر خروج مقاتلي المعارضة وعدم خروج السلاح الثقيل وتجاوز قطع السلاح للعدد المتفق عليه، وسار باص الكتب في القافلة وصولاً إلى “معبر أبو الزندين” في منطقة “الباب” وتأخر دخول القافلة خمسة أيام حتى حصلنا على الموافقة لدخولنا منطقة سيطرة المعارضة، ومن ثم دخلنا إلى منطقة الباب حيث نسقنا مسبقاً مع “مؤسسة قيم” لوضع الكتب لديهم ريثما نقوم بتجهيز مكان وتفعيل المكتبة من جديد”.

لم يكن حال الكتب في الشمال السوري بأفضل من حال أصحابها المهجرين، إذ تعرضت في رحلتها للأمطار والفوضى وضياع قسم منها، وتركها في أماكن لم تكن آمنة فيها كبعض المخيمات، إضافة إلى الإهمال وعدم تقدير أهميتها، ويوضح “أبو الخير” ما تعرضت له الكتب بعد وصولها إلى الشمال السوري قائلاً: “للأسف صدمنا بالأمر الواقع من حيث التكاليف الباهظة لهذا الأمر، ناهيك عن تشتت فريق المكتبة في أماكن متباعدة، وعدم اهتمام غالبية مؤسسات وفعاليات المعارضة في موضوع الثقافة والعلم بشكل عام، واضطررنا لترك الكتب في مخيم جنديرس فترة طويلة قبل أن يتم نقلها لمؤسسة قيم”.

حالياً يتم استثمار الكتب من خلال “مؤسسة قيم” في منطقة الباب وتفعيلها في ضمن خطط المؤسسة الثقافية، والأخيرة من أفضل المؤسسات الفاعلة في موضوع العلم والمعرفة، ولديهم المكان المناسب ومكتبة عامة والعديد من النشاطات الجيدة جداً في هذا الخصوص”.
وعن رد فعل الناس من عملية نقلها يردف: “لم نكن نتوقع أن تصل الكتب إلى الشمال السوري، وكان معظم من يعلم بإخراجنا للكتب يضحك أو يشعر بالغرابة، وقد نجحنا بإخراجها من خلال جهد جماعي من فريق المكتبة وبعض الأصدقاء”، متأملا أن يكون المشروع أكثر فائدة وأَعم من خلال مكتبة عامة متاحة لجميع من يرغب بالقراءة والمعرفة في جميع المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار.
ويرى “أبو الخير” أن استخدام الكتب حالياً يتم بشكل جيد وبمناخ ملائم لدى مؤسسة قيم، بعد أن عرضت الكثير من الجهات والمنظمات بأن توضع الكتب لديهم، ولكن لم يشعر فريق المكتبة بالراحة لبعض هذه الطلبات، إذ أن هدفهم غالباً تحقيق غايات ومصالح أو دعاية إعلامية لتسويق أسمائهم.

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

 

مؤسسة قيم
تأسست مؤسسة قيم في الداخل السوري عام 2013، بهدف تعزيز التعليم والثقافة والتدريب، ومن أولى إنجازاتها بحسب تعريف لها عن نفسها، هو تأسيس مكتبة عامة باسم “مكتبة قيم” في مدينة الباب بريف حلب، وإغنائها بأهم الكتب الفكرية والعلمية والإسلامية.
وكانت مكتبة قيم قد بدأت في حي الوعر الحمصي عام 2013 وضمت مؤلفات مميزة ونادرة في مجالات متنوعة، انتقلت بعدها إلى مدينة الباب بعد حملة التهجير القسري عام 2017، وأعيد هيكلتها من جديد، مع قسم جديد لكتب الأطفال، ووصل عدد كتبها إلى 800 كتاب قبل وصول كتب المكتبة الدمشقية إليها.
وعن مساهمة الكتب في الوضع الثقافي في المنطقة قال المدير التنفيذي لمؤسسة قيم “عبد الحسيب المعصراني” أن الكتب قد ساعدت الطلاب في مختلف المراحل الدراسية وطلاب المعاهد والجامعيين بتقديم الكتب والمراجع الورقية والإلكترونية، كما قدمت لطلاب الدراسات العليا المراجع اللازمة لهم، فضلا عن بناء الوعي ونشر الثقافة وتفعيل دور القراءة لدى شريحة الأطفال والشباب.
استطاع مشرفو المكتبة قبل تهجير أهل الوعر من حمل ما يقارب 500 كتاب من أصل 2800 كتاب، وبمساعدة بعض التبرعات المقدمة من عدة جهات وأشخاص، تم افتتاح مكتبة قيم في مدينة الباب في شهر أيار 2017.
وتقدم المكتبة خدماتها عبر طريقتين، الإعارة الخارجية والقراءة الداخلية، بحيث يمكن للقراء اصطحاب الكتب لقراءتها في المنازل أو الاطلاع عليها في صالة المكتبة.
وتشهد المكتبة حاليا إقبالا لا بأس به من قبل المهتمين بالقراءة والكتب ولا سيما بعد تخصيص قسم مستقل لكتب المكتبة الدمشقية التي بلغ عدد كتبها 2100 كتاب، إضافة إلى 800 كتاب في مكتبة قيم، ورغم أن الكتب متاحة للجميع للإعارة والقراءة إلا أنها لم تتعرض لأي هدر أو اهمال بحسب مسؤول العلاقات العامة في مؤسسة قيم “أسامة السقا”.
ضاع قسم كبير خلال رحلة التهجير لكن قسما لا بأس به من الكتب قد وصل، ورغم ما يراه البعض من رفاهية في موضوع الكتاب والقراءة في زمن الحرب والحرص على الوجود، يرى سوريون آخرون أن حياة يعمها الجهل تساوي الموت.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*