مغامرة “السواح الأخيرة”: ضد المحجبات

المفكر والباحث في الميثولوجيا الكاتب السوري فراس السواح ليس صديقي على الفيس بوك، مع أنّ عمر صداقتنا الفكرية يعود إلى حوالي أربعين عاماً حين اكتشفت كتابه الرائع “مغامرة العقل الأولى” ثمّ سحرني كتابه “لغز عشتار” وصرت ألتهم كتبه تباعاً فور صدورها. مكتبتي تفخر باحتوائها على جميع ما ألّفه المفكر فراس السواح، وقد أعدت قراءة بعضها غير مرّة، خاصة كتابه “الرحمن والشيطان” وكتابه “الوجه الآخر للمسيح”.
بحث فراس السواح في كتابه الأول “مغامرة العقل الأولى” في أساطير بلاد الرافدين وبلاد الشام (العراق وسوريا) ودرس تأثيرها على الأديان “الإبراهيمية” واستفاض بشرح موضوع الأساطير. أمّا كتابه الأشهر والأجمل “لغز عشتار” فيبحث في الطفولة الفكرية للبشر وكيف تكوّنت الأسطورة في المخيلة البشرية وعرض الملاحم الأسطورية والطقوس الدينية التي أنتجتها تلك المخيلة وكيف أوجدت فلسفة ميتافيزيقية تتواءم مع الاحتياجات البشرية.
لفراس السواح كتاب اسمه “دين الإنسان” هذا الكتاب بحثٌ جاد في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، حلّل فيه الظواهر الدينية بعرض مفصل لرحلة الإنسان الباحث عن وجوده ومصيره ومصير الكون الذي يعيش فيه، ويصل إلى نتيجة أنّ ما يميّز الأديان عن باقي الأنساق الفلسفية هي الطقوس! فإذا سلّمنا أنّ الدين في الأصل تشكّل من المعتقد والأسطورة والطقوس، فالطقوس وحدها من يضمن استمرار الدين، وهي في اعتقاده ضمان لاستمرار حياة المعتقدات أيضاً؛ لأنّها تدخل الإنسان في علاقة مباشرة مع العوالم “القدسيّة”.
بالعودة إلى فكر فراس السواح وسيرته البحثية ومؤلفاته وتاريخه نجد أنفسنا أمام ظاهرة بحثية مميزة جذبت إليها آلاف القرّاء من الشباب خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وكان اسمه كافياً لشراء الكتاب واقتنائه من دون تردد، وكانت محاضراته تلاقي رواجاً كبيراً وحضوراً مميزاً. وفي إحدى المقابلات يذكر السّواح هدفه الأول من التأليف والذي يتلخص برغبته فتح “طاقة” في العقل للتفكر والربط من خلال استعراض مجمل الأساطير التي أسهمت في تكوين العقل العربي.
لقائي الوحيد الشخصي بفراس السوّاح كان عام 1993 حين جاء إلى مدينة سراقب لإلقاء محاضرة دعته إليها إدارة المركز الثقافي في المدينة، ولم أكن وقتها قد حضرت أيّ نشاط في المركز الثقافي؛ لأنّ الحضور كان مقتصراً على “الرجال” لكن بمجرد أن سمعت من مكبر صوت مئذنة الجامع في الحي أنّ المحاضرة لفراس السواح قررت كسر التابو والحضور. والإعلان عن المحاضرات من خلال مكبرات المساجد أمر خاص بمدينة سراقب لم أعهده في أيّ مدينة سورية أخرى!
قد يذكر فراس السواح ذلك، فحين صعد المنبر وجلس في قاعة امتلأت حتّى آخرها وكنت لوحدي في المقعد الأخير في الزاوية بدأ حديثه بالقول: “دعوني أولاً أشكر السّيدة الوحيدة في القاعة التي أتاحت لي الفرصة لأقول لكم مساء الخير أيّتها السّيدات والسّادة”. والتفتت أعناق ما يزيد عن مئتي شخص من الحضور لترى السّيدة التي خاطبها في مقدمته!
بعد الأمسية أكملنا الحوار حول ما جاء في المحاضرة في منزلي، لم أحضر النقاش فقد كنت أقوم بواجب الضيافة “للرجال” الذين جاؤوا مع فراس السّواح من المركز الثقافي. عندما أراد المغادرة شدّ على يدي وشكرني على حسن الضيافة، حينها قال زوجي له إنّي قرأت كتبه المطبوعة في ذلك الحين كلّها وإنّي درست اللغات السامية وكنت أرابط كالعسكر في متحف حلب لمدة سنة كاملة من أجل دراستي.
أبدى استغرابه المصحوب بالتقدير حينها وشد على يدي ثانية هذه المرّة لأجل القاسم الفكري والدراسي المشترك بيننا! طبعاً لم يكن فراس السّواح في ذلك الوقت قد توصل إلى اكتشافه الفيسبوكي بأنّ الحجاب حجابٌ للعقل. وربّما لم يكن قد توصل نتيجة دراساته التّجريبية حسب معطيات العلم التّطبيقي إلى هذه الإشراقة.
منذ أيام فوجئت بموجة هجوم على المفكر السّوري فراس السّواح أغرقت مواقع التّواصل الاجتماعي بسبب منشور على صفحته الشّخصية في الفيس بوك حيث كتب (تعميماً) يعلن فيه رفضه قبول طلبات الصّداقة من المحجبات لأنّ (الحجاب حجابٌ للعقل)
ذهولي كان من أمرين صيغة المنشور وطريقة الهجوم. فصياغة المنشور تقريرية مطلقة وكأنّها نتاج تجربة علمية لا تقبل التأويل وهذه الصياغة أطارت بالنسبة لمتابعيه ومحبيه كلّ تاريخه البحثي والفكري، وعاملوا الرجل على أنّه شخص تافه وتفكيره متهافت ومحدود وجاهل.. اتهم بالكثير من التّهم ونبش كثيرون وراءه فذهبت إحدى السيدات “وهي التي دقّقت كتبه قبل الطباعة” إلى أنّ كتبه كانت مليئة بالأخطاء “المعرفية” وأنّه كثيراً ما خلط بين أمور لا يصح لباحث أن يقع فيها. كما أشار البعض إلى ركاكة لغته الإنجليزية علماً بأنّ الرجل شارك في تأليف كتب بالإنجليزية.. ودافع البعض عن فراس السّواح بطريقة بائسة لا تمت إلى الفكر بصلة ولكنّها جاءت من مبدأ التّعاطف الإنساني بأن افترض المدافع أنّ الرجل قد “خرّف” وأنّنا يجب ألا نحاسبه على هفوة قائلاً بأنّنا لا نحاسب آباءنا على أخطائهم عندما يهرمون ويخرفون!
في الواقع لا نستطيع التّعامل مع فراس السّواح على هذا المبدأ من التّعاطف الإنساني البائس؛ لأنّه ببساطة ليس خرفاً، الرجل مدرّس ومحاضر ومفكر وما زالت قواه العقلية والذهنية في أوجها ومازال يكتب ويحاضر. وكما أنّنا لا نستطيع إلغاء تاريخه الفكري والبحثي وما قدمه للإنسانية، لا نستطيع على الصّعيد الشّخصي أن نتعامل معه على أنّه شخص غير سوي.
لا أريد الدفاع عن المحجبات “وأنا منهنّ” ولا أريد مناقشة الأمر على طريقة البعض الهجومية.. لكنّي أقول لفراس السّواح: “كنت أنتظر منك طيلة ثمانية أعوام من عمر الثورة السورية موقفاً أخلاقياً تعبّر فيه عن تعاطفك مع المعتقلين أو النازحين.. كنت أنتظر منشوراً عن المدن المدمرة، عن الأطفال في المخيمات، عن أيّ قضية من قضايا الشّعب السّوري، لكنّك اخترت منشوراً من السّخف أن أناقشه وأنا أرى السّوريات المحجبات في الغرب، أمريكا وألمانيا وإسبانيا، وقد لفتن أنظار العالم بإنجازاتهن الفكرية والعلمية خلال الأعوام الثمانية الماضية حين كنت قابعاً في دائرة المحاضرات عن الشرق الأدنى تدور مع التّاريخ ولا ترى سوى خرقة تغطي عقل المرأة وتحجبه وتمنعه من التّفكير.
أمّا لو حاولنا البحث عن معاني كلمة حجاب الحقيقية والمجازية لوجدنا أن الإيديولوجيا حجاب، والتّعصب لفكرة حجاب، والخوف من المذلة على يد حاكم حجاب، والبحث عن أمان عند حاكم ظالم حجاب، وتصديق إعلام الطغاة حجاب.. والباحث الحقيقي لا يمكن أن يغرّد في سربه إن لم يكن على عقله وعينيه ألف حجاب. حقّاً حُجُبُ العقل أكثر من أن تحصى.

‏إبتسام تريسي‏ – الجزيرة مباشر

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*