قامت عناصر تابعة لبلدية بيروت قبل أيام، بملاحقة الفتى السوري “أحمد الزعبي” البالغ من العمر 14 عاماً، والذي يعمل كماسح للأحذية بهدف إعالة أسرته، ولدى هروبه منهم التجا أحمد إلى سطح مبنىً قريب، ولدى عودة عناصر البلدية من سطح البناية أخبروا قريبه بأن أحمد قد تمكن من الفرار رغم صعودهم إلى ذلك السطح، ليتم العثور على جثته بعد ثلاثة أيام وقد قضى بعد سقوطه المريب من منور المبنى ذاته.
صحيح أن ما زاد علي من وطأة حادثة مقتل الطفل أحمد أنه سوري، ولكن الزمان والمكان كان الموجع أكثر.
ما زاد علي من وطأتها هو أنه طفل وسوري وفار من الحرب وتبعاتها ليلقى حتفه في المكان الذي فر إليه مع عائلته، وأن جل ذنبه أنه كان يحاول تأمين لقمة عيشه وعيشها بكرامة دون ذل السؤال، رمى طفولته جانباً كما معظم أطفال سوريا، ليلاحقه عناصر بلدية بيروت مراراً وتكراراً، ويوقفوه لأكثر من مرة، ليخرج بعد كل مرة بكفالة مالية، وبعد أن يتعرض للضرب والإهانة.
كل ذلك ليس مربط الفرس أيضاً، على الرغم من كل ما لاقاه السوريون الذين فروا إلى لبنان من انتهاكات، ليس أولها تسليم الناشطين والمعارضين والمتخلفين عن الخدمة الإلزامية لأجهزة الأمن التابعة للنظام منذ بداية الثورة وحتى اليوم، كما أن ليس آخرها مطالبات الحكومة اللبنانية بشكل شبه يومي بإعادة اللاجئين على أراضيها إلى سوريا.
مرورا بما أطلقت عليه زوراً وبهتاناً اسم العودة الطوعية التي أدت إلى اعتقال الكثيرين ممن عادوا مؤخراً، وذلك وفقاً لتحقيقات لبنانية ولتصريح وزير شؤون اللاجئين اللبناني “معين مرعبي” نفسه، إلا أن الوزير “جبران باسيل” حتى اللحظة ما يزال مُصرّاً على إجلاء كافة اللاجئين، وسيتوجه إلى دمشق خلال أيام لهذا الغرض، وليبرر عدم استطاعة لبنان فرض حكومة الأسد في القمة الاقتصادية العربية التي عقدت في بيروت قبل أيام، بحسب مصادر إعلامية.
ولو تجاوزنا الممارسات والانتهاكات التي تعرض لها السوريون في لبنان، والتي لا تعد ولا تحصى، والتي جعلت من لبنان أسوأ وأخطر دولة لجوء للسوريين بحسب تقارير حقوقية من أبرز المنظمات الدولية، فكيف لنا نتجاوز أن تكون الشرطة على علم بأن أحمد الزعبي الطفل السوري ذو الـ 14 ربيعاً، ماسح الأحذية في شوارع بيروت- ليس انتقاصاً من قدره أو عمله وإنما شرف له ولكل السوريين أن يموت وهو على رأس عمله ولن أقول أن يقتل، ذلك لأن تفاصيل موته لم يتم التأكد منها بعد- لا سيما أن الرواية الرسمية تفيد بسقوطه في “منور” الطابق السادس في المبنى الذي التجأ إليها هرباً من عناصر البلدية الذين لاحقوه بقصد اعتقاله لمخالفته القوانين وفقا لتعبير بلدية بيروت، وكيف لها أن تتركه لثلاثة أيام دون أن تعلن أو تكتب في محضرها الذي قالت البلدية عنه إن عناصرها كانوا ضمن مهمة.
بلدية بيروت لم تقم بإطلاع عائلة أحمد التي أبلغت عن فقدانه بما حلّ به، ولولا أن مكان عمله على مقربة من مسجد يحوي كاميرات مراقبة خارجية، تنبهت العائلة لها وطلبت مراجعة الفيديوهات المسجلة، والتي أظهرت هروب أحمد من عناصر البلدية نحو أحد المباني ودخولهم خلفه وخروجهم بعد مدة بدون خروج أحمد مرة ثانية من المبنى خلال الأيام الثلاثة التي فقد فيها، لكانت العائلة ما تزال تبحث عن ابنها، ولكان مصيره حتى اللحظة مجهولا.
ما معنى ذلك التكتم، وما الهدف منه، وعلى ماذا يدل؟
ناشطون لبنانيون اتهموا عناصر بلدية بيروت بالتسبب بمقتل أحمد، وقالوا إن سقوطه ربما لم يكن حادثة، وأن العناصر ربما هم من رموا به في المنور، في الوقت الذي ترفض فيه البلدية اتهام عناصرها بالتسبب بموته.
أحمد خالف القوانين نعم، وجميعنا نحترم القوانين ونطالب بالالتزام بها، ولكن عدم احترام القوانين لا سيما بأن المخالفة هي العمل بدون ترخيص على أرصفة الشوارع، لا يعني أن تكون السبب بشكل أو بآخر بموت طفل، فليست هذه هي عقوبة المخالفة التي ارتكبها أحمد، وليس فيما جرى له أي احترام أو التزام بالقانون الذي تشدقت به البلدية في بيانها.
كما لا يعني أن تتكتم على الحادثة وعلى موت إنسان، ثم تستبق الأحداث وتتهم الطفل بالسرقة وغيرها ربما لتخفيف الحرج واللوم عليها وعلى عناصرها، ولو أنه حتى ولو ثبتت التهمة عليه فعقوبتها ليست القتل.
ولم تكتف بلدية بيروت بكل ذلك، بل ووفقاً لما نقلته مصادر إعلامية عن أحد أقرباء الطفل أحمد، والذي رفض الكشف عن اسمه بسبب الخوف والضغوط التي تمارسها بلدية بيروت على العائلة، فإن البلدية قامت بمصادرة هاتف عم الطفل وحذف صورته التي التقطها له عندما تم العثور على جثته في أرض المنور، قبل أن تعيد الهاتف، فضلاً عن ممارستها الضغوط على عائلة أحمد لمنعهم من التقدم بشكوى ضد عناصرها.
الناشطون اللبنانيون توقعوا مسبقاً ألا تأخذ العدالة مجراها في حال تقدمت العائلة بشكوى، لا سيما بأن أحمد طفل سوري بحسب تعبيرهم.
الشعوب لا تؤخذ بجريرة حكوماتها، ولا يجب الحكم على الشعب اللبناني بسبب ممارسات حكومته تجاه السوريين، ولا حتى الحكم على الشعب بسبب فئة معينة منه، فالسوريين قابلوا في معظم دول اللجوء فئات مناهضة لهم ووقفت في وجههم وهو أمر بات طبيعياً في حالات الحروب واللجوء.
تعيدنا الحادثة إلى قصة الشاب اللبناني “علاء الديراني” ابن الثالثة والعشرين من عمره المفقود منذ نحو شهر، ورغم أنه ليس طفلا كأحمد، لقي تعاطف شريحة واسعة من السوريين معه ومع عائلته، وحتى بعد أن تم التأكد من سلامته وتحدثه مع والدته عبر الهاتف وطمأنته لها.
الإنسانية لا تتجزأ ولو كان أحمد لبنانيّاً لما قلل ذلك من حزن السوريين عليه، ولو كان علاء سوريّاً لما زاد في حزنهم عليه، فلا يمكن أن تقولب العواطف بحسب الجنس والعرق والانتماء، وذلك أضعف ما يمكن أن يملكه المرء لكي يستحق صفة إنسان.