كيف حطم التهجير بنية أسر سورية

زيتون – تيسير محمد
لم يسبق للمعلّم الخمسينيّ ورب الأسرة “عبد الرحمن وائل” من سكان جنوب دمشق، أن افترق ولو ليوم واحد عن عائلته المكونة من الزوجة وثلاثة صبيان وبنت.
ظل الأب إلى جانب عائلته، يراقب نمو أطفاله ويلاعبهم ويعلمهم، إلى أن اندلعت الثورة ووصلت نيرانها إلى منطقته، وبدأت الاشتباكات فيها بين الثوار وجيش النظام، وكان الخطر يزداد شيئاً فشيئاً على وائل وعائلته وجميع أهالي المنطقة.


في بداية الأمر لم يكن يعلم عبد الرحمن ما بوسعه أن يفعل ليحمي أطفاله، هل يبقى هو وعائلته تحت جحيم القصف، أم يخرج بهم من منطقته إلى مكانٍ آمن؟، وظل في حيرة من أمره مدة شهر تقريباً، ليحسم قراره بعد اتصالٍ من والدته تخبره فيه بأنها ستسافر برفقة أخيه وعائلته إلى الأردن، وتطلب منه مرافقتهما هو وعائلته.
“عبد الرحمن وائل” قال لزيتون: “كان جيش النظام يستهدف المدنيين قبل العسكريين، ويقصف التجمعات السكنية، مما خلق في نفسي رعباً على أولادي، وبعد الاتصال الذي تلقيته من والدتي، فكرت في الأمر ملياً، أريد حماية أطفالي ولكنني أرفض التخلي عن ثورتي، إذا خرجت وخرج الجميع مثلي لحماية عائلاتهم فمن سيبقى؟، توصلت لقرار بأن أرسل زوجتي وأولادي مع أمي، وأبقى أنا أمارس واجبي كمعلم، بالإضافة إلى عمل تطوعي في إغاثة الفقراء والمساكين”.
وأضاف “عبد الرحمن”: “طالت المدة وكنا نتوقع في بداية الثورة نصراً سريعاً ولكنه لم يحدث، عشت السنوات الخمس الأخيرة بعيداً عن عائلتي، ولا سبيل إليهم إلا الاتصال عبر وسائل التواصل، فحرصت أن أكلمهم كلما سنحت لي الفرصة لأعوضهم عن بعدي ولو شيئاً قليلاً، ثم وصل شبح التهجير إلى المنطقة وتوجهنا نحو الشمال السوري، والذي لم أستطع التأقلم معه وطريقة الحياة فيه، ونصحني بعض معارفي بأن أغادر إلى تركيا لمحاولة لم شملي مع عائلتي، ولكن الوضع ازداد تعقيداً”. 
طرق عبد الرحمن كل الأبواب الرسمية وغير الرسمية دون جدوى، السلطات التركية رفضت جميع طلبات لم الشمل التي تقدم بها، وطرق التهريب غير سالكة، يسيطر عليها تجار الدم والمشاعر، وعلى الرغم من ذلك فقد خاض وائل التجربة، ودفع مبالغ طائلة في سبيل أن يلتم شمل عائلته وتعود حياتهم إلى ما كانت عليه في السابق، ولم يكتفِ بتجربة التهريب عبر الأراضي السورية فعائلته تقيم في الأردن، مما جعله يجرب طرق التهريب عبر مصر، وطُلب إليه دفع مبلغ 2700 دولار أمريكي عن كل فرد من أفراد عائلته، ومع ذلك قَبِل أن يدفع هذا المبلغ الكبير، ولكن المُهَرّب رفض بعد أن عرف مكان إقامة العائلة، بحسب رب الأسرة الذي ختم حديثه: “عندما تركتهم كانوا أطفالاً، والآن أصبح جلهم بالغين، لم أتخيل يوماً أن نبتعد عن بعضنا كل هذا الوقت، وأن يكبر أولادي دون أن أراهم في كل يوم كيف وكم يكبرون، ولا أعلم متى سألتقي بهم أو كيف سأعوضهم عن كل ما فاتهم”. 

يجمعُ الباحثين والعاملين في مجال علم النفس الاجتماعي أن بناء أي مجتمع حضاري سليم مترابط يبدأ من الأسرة، وبالتالي فالمجتمعات المريضة المتفككة جل مشاكلها بسبب تفكك الأسر فيها، مما يعني بالضرورة مجتمعاً بعيداً كل البعد عن مقومات الحياة الطبيعية السليمة.
حدد بعض الباحثين المشاكل والأسباب الرئيسية التي من شأنها أن تكون سبباً في تفكك الأسرة، منها “مظاهر العنف المرتبطة بعسكرة المجتمع، الطلاق، وفاة أحد الوالدين أو كلاهما، الغياب الاضطراري للأب إلى غياب النموذج الرجولي في الأسرة، إدمان أحد الوالدين أو الأولاد على المخدرات أو المشروبات الكحولية، السجن، الهجرة، عدم التوافق الجنسي بين الزوج والزوجة، انخفاض دخل الأسرة، تدخل أشخاص من خارج المنزل في أمور الأسرة، تعدد الزوجات، السكن المشترك مع بعض الأقارب، عدم ملائمة المنزل الذي تقيم فيه الأسرة، حالات النزاع والشجار بين أفراد الأسرة وخاصة بين الوالدين”. 
ويكفي سبب أو اثنين من الأسباب السابقة، ليكون كفيلاً بتمزيق الأسرة ومن خلفها المجتمع مالم تتم معالجته في التوقيت المناسب.
في سوريا ومنذ انطلاق الثورة تعرض المجتمع إلى الكثير من الهزات والصدمات خلخلت بنيته وتركيبته بشكل كبير، واجتمعت عليهم الظروف والأحداث التي من شأنها ليس فقط أن تفكك المجتمعات بل قد تؤدي إلى تدميرها كلياً في حال لم يتم تدارك الفجوات وإصلاح ما يمكن وتجنيبه المزيد من الأوجاع والمآسي، والتي زاد التهجير وطأتها.

“أحمد السعيد” أحد مقاتلي الجيش الحر في الغوطة الشرقية، أجبره التهجير أيضاً على الابتعاد عن عائلته، وروى لزيتون كيف فرّق التهجير بينه وبين أولاده قائلاً: “أنا أب لخمسة أطفال تشاركت معهم أنا وزوجتي الحصار والقصف والجوع طيلة أيام الثورة، ولم أفارقهم إلا خلال ساعات الرباط التي فقدت خلالها إحدى قدمي بقذيفة دبابة، وعندما حان وقت الخروج من الغوطة اتفقت مع زوجتي أن تبقى مع أولادي، بينما أنطلق أنا نحو الشمال السوري، وأقوم بتجهيز منزل مناسب للسكن، وأجد عملاً يتناسب مع وضعي الصحي، ومن ثم أطلب منهم اللحاق بي إلى هناك”.
وأضاف “السعيد”: “لم تجر الأوضاع كما خططت لها، واستغرقت وقتاً طويلاً حتى وجدت منزلاً يتناسب مع وضعي المادي، ولم أستطع أن أجد عملاً يتناسب مع وضعي، ومع ذلك طلبت من زوجتي أن تبيع قطعة أرض لها وتأتي مع أولادي، ولكن عناصر النظام اعترضوا سبيل عائلتي وهي في طريقها إليّ عبر مناطق سيطرة الأكراد، ومنعوا ولداي الكبيرين من الدخول بحجة خدمة العلم مع أن أعمارهم /17/ و /15/ عاماً، وهما ليسا في سن الخدمة بعد، فعادا أدراجهما ودخلت زوجتي مع باقي الأولاد”.
لم تتأقلم زوجة السعيد مع المكان الجيد والمنزل الذي يفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة، وزاد من ذلك بُعد ابنيها عنها، وعدم القدرة على التواصل معهما بشكل دائم ومستمر بسبب تشديد القبضة الأمنية على وسائل الاتصال وجهل الكثيرين في كيفية حماية أنفسهم من الملاحقة المخابراتية، فقد سجلت الكثير من حالات الاعتقال بسبب مكالمات هاتفية من الشمال السوري أو إليه، بحسب السعيد والذي أضاف: “تشاجرت مع زوجتي لرغبتها بالعودة إلى الغوطة ولكنني لم أستطع أن أمنعها فلديها أسباب ووجهة نظر من الغبن أن أتجاهلها، فمن الصعوبة بمكان لأي أب أن يكون بعيداً عن ولديه وفي فترة المراهقة بالتحديد، على اعتبارها مرحلة انتقالية تختلط لديهم فيها الكثير من المشاعر مع الحاجة الماسة لوجود الوالد ليساعد أبناءه ويوجههم لما فيه مصلحتهم، والإناث يحتجن للكثير من العناية في هذا الوقت لأنهن يعشن في مجتمع ذكوري ينظر إليهن بانتقاص دائماً مع وجود الكثير ممن يحملون طبع الذئاب من حولهم”.
لابد أن حالة الحرب خلال السنوات الثمان الماضية ضربت ركائز المجتمع السوري بكل أطيافه، إلى أن وصل إلى شفير الهاوية، وبات يتطلب جهداً جباراً من أهل الخبرة والاختصاص للمحافظة على ما تبقى منه وترميمه قبل أن يصل إلى نقطة اللا عودة، فالأسباب التي وضعها الباحثون لتفكك المجتمعات بعد دراسة العديد من نماذج الأسر المستهدفة تجتمع كلها في أسرة سورية واحدة في وقتنا الحالي.
ويكفي أن تزور أحد مخيمات اللجوء وتستمع لقصة واحدة لعائلة يتيمة الأب والأم، وأحد أفردها استشهد جراء القصف، والآخر ما يزال في ظلمات السجن، وحالتهم النفسية في الحضيض، يتسولون المنظمات والناس ليستطيعوا أن يبقوا على قيد الحياة.
وعلى الرغم من كل المصائب التي حلت بالمجتمع السوري بشكل عام، إلا أنك تستطيع أن تدرك مدى عظمته، من خلال محاولة أُسره الصمود ما استطاعت إليه سبيلاً، مع تمسك معظم الفئات بما تبقى لديها من عوامل لتحافظ على كينونتها، متحدية الظروف، متحاملة على آلامها مهما حاولوا إغراقها في ظلمات القهر على مختلف أنواعه وأشكاله.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*